إذا سبق لك أن قرأت كتاب «مبادئ الاقتصاد »، فستتذكر أن مفهوم الندرة هو جوهر الانضباط. وإذا سألنا عن سبب ارتفاع سعر الماس، وهو سلعة فاخرة، وانخفاض سعر الماء، وهو ضرورة حيوية، فإن الجواب هو أن الماء يسقط حرفياً من السماء، في حين أن الماس نادر. وتعد الندرة (العرض)، جنباً إلى جنب مع الاحتياجات والرغبات (الطلب)، وتحديد السعر ومؤشرات الأسعار، أمراً بالغ الأهمية لكيفية عمل الاقتصادات.
لكن ما مدى فائدة هذا الدليل الإرشادي لمفهوم الندرة اليوم؟ بالطبع، فإن الماس نادر والمطر مجاني. لكن هناك مؤشرات وديناميكيات مستمرة في الاقتصاد في جميع أنحاء العالم تشير إلى طرق يمكن أن يوجهنا بها إطار الندرة نحو الخيارات الخاطئة. وعلى سبيل المثال، يتم التذرع بالندرة في حجج التقشف المالي، كما هو الحال عندما يجادل صناع السياسة بأنه لا يمكننا تحمل حزمة إعانة كبيرة بما يكفي لمساعدة الناس على التعامل مع الاقتصاد المتباطئ وفيروس كورونا المتزايد (وإن كانت مثل هذه الحجج غالباً ما تكون سياسية أكثر منها اقتصادية).
هناك مؤشران مهمان لدفعنا إلى التفكير بشكل مختلف حول الندرة، هما أسعار الفائدة والتضخم. لقد علقت كثيراً على أسعار الفائدة المنخفضة، وجادلت مؤخراً بأنها تشجع على تمديد الاقتراض الحكومي لتلبية الاحتياجات العاجلة. لكن لماذا كانت المعدلات منخفضة للغاية، ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن في جميع أنحاء العالم؟ وماذا يجب أن يخبرنا ذلك عن الندرة؟
وبالعودة إلى مبادئ الاقتصاد ، نجد أنه لابد وأن المدخرات ليست نادرةً، وبالتالي فإن سعر اقتراض تلك المدخرات بفائدة منخفضة. وفي الواقع، كان هذا هو الحال منذ سنوات. في عام 2005، لاحظ محافظ الاحتياطي الفيدرالي آنذاك «بن برنانكي» ما أسماه «تخمة الادخار العالمية»، حيث كان يخشى أن تؤدي المدخرات الزائدة إلى إغراق أسواق رأس المال لدينا وتضخيم فقاعة الائتمان.
وفي سياق مماثل، كتب الخبير الاقتصادي «لاري سمرز» عن عودة «الركود العالمي»، وهي طريقة أخرى لوصف مشكلة وجود مدخرات أكثر من الاستثمارات الخاصة المنتجة. وفي دراسة جديدة موجهة إلى الفريق الاقتصادي القادم للرئيس المنتخب جو بايدن، جادل سمرز بأن هذا الخلل يتطلب الانتباه لأنه «السبب النهائي للنفوذ المالي الزائد، وفقاعات الأصول، والنمو البطيء، والتضخم غير الكافي».
وببساطة، فإن حقيقة أن أسعار الفائدة منخفضة للغاية في العديد من البلدان ومن المتوقع أن تظل منخفضةً لسنوات قادمة، تخبرنا بأن الندرة ليست الإطار الصحيح للتفكير في الاقتراض والإنفاق في الوقت الحالي. وبدلاً من ذلك، يجب أن نستفيد من المدخرات الزائدة والمعدلات المنخفضة التي توفرها، ونستخدم هذه الموارد لغرضين: الأول العمل بسرعة لمواجهة التحديات الأكثر إلحاحاً في الوقت الحالي، بما في ذلك الإغاثة من الوباء والصعوبات الاقتصادية، والثاني الاستثمار في السلع العامة المنتجة.
وفيما يتعلق بهذا الأخير -الاستثمار العام –أتذكر أنني أدرك تماماً أن الماء يتساقط من السماء. هذا صحيح، لكن لا تزال هناك أماكن في هذا البلد حيث «يعد تلوث المياه مشكلة رئيسية». وبعبارة أخرى، بينما قد يرى المستثمرون من القطاع الخاص استثمارات كافية جديرة بالاهتمام لاستيعاب المدخرات الفائضة في العالم، هناك الكثير من المشاريع العامة الحيوية التي تحتاج بشدة للاستثمار. وعائدات هذه الاستثمارات، خاصة في مجال الطاقة النظيفة، والماء النظيف، ورعاية الأطفال والرعاية الصحية والتعليم بأسعار معقولة تحقق أرباحاً مستقبلية، بحيث يكون العائد على هذه الاستثمارات أعلى بكثير من تكلفة الاقتراض المنخفضة.
العائق هنا ليس الندرة، بل رأس المال الاستثماري، ومن المتوقع أن يظل، في متناول الجميع بمعدل أقل بكثير من العائدات المتوقعة. العائق هو مشكلة أخرى ذات صلة: عدم المساواة. وهو، في هذه الحالة، يتمثل في رأس المال الخاص غير المستغل بشكل كاف والذي يمكن نقله بشكل مثمر إلى الجانب العام من برنامج إدارة الاستثمار.
بسبب عدم المساواة، من السهل النظر حولك واستنتاج أن الندرة منتشرة. من الواضح أن بعض الأشخاص، وهم في كثير من الأحيان أشخاص ملونون، لديهم فرص قليلة جداً للحصول على الرعاية الصحية والسكن اللائق والمدارس الجيدة ورعاية الأطفال.. بأسعار معقولة، وحتى العدالة الجنائية. لكن نظرة فاحصة تكشف مرة أخرى أن المشكلة ليست في ندرة الموارد، بل الطريقة غير المتوازنة وغير المتكافئة التي يتم بها الحصول على هذه الموارد. فالاقتصادات المتقدمة الأخرى، والتي تتمتع جميعها بنصيب فردي أقل مما لدينا، توفر وصولاً أكثر إنصافاً إلى هذه الضروريات.
نحن نعيش في اقتصاد به فجوات هائلة بين الموارد المتاحة لمجموعات مختلفة من الناس. وفي هذا الاقتصاد نفسه، من المتوقع أن تظل تكلفة الإعانة ورأس المال الاستثماري منخفضة لفترة طويلة. فالقطاع الخاص يستغل رأس المال بالقدر الكافي، في حين أن القطاع العام محروم من الاستثمار. ومن المؤكد أن العائد على هذه الاستثمارات العامة سيكون أعلى بكثير من تكلفتها.
ومرة أخرى، لا يتمثل العائق الاقتصادي في ندرة الموارد. إنها ندرة الأفكار الجريئة والإرادة السياسية لجعلها تؤتي ثمارها. ونظراً لأننا نقف على أعتاب إدارة رئاسية جديدة، بأفكار مختلفة تماماً عن الأفكار السابقة حول الشمولية والاستثمار وعدم المساواة والعدالة العرقية ودور الحكومة.. أقترح أن نستبعد الحجج الكاذبة حول الندرة ونراقب ما سيحدث بعد ذلك.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»