الصراع الاقتصادي والتجاري الأميركي الصيني يزداد ضراوة، فبعد الحرب التجارية بينهما والإجراءات والإجراءات المضادة التي ألحقت ضرراً بمصالح وتجارة البلدين وانعكست سلباً على التجارة الدولية، جاء الانسحاب الأميركي من «اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة»، الذي يضم خمسة عشر دولة بجنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ، تلاه انسحاب الهند خوفاً من إغراق السوق الهندية بالبضائع الصينية الرخيصة.
انسحاب هذين القطبين الكبيرين، واشنطن ونيودلهي، من أكبر اتفاق تجاري عالمي ترك المجال مفتوحاً للصين التي تدعم هذا الاتفاق والذي يضم دولا مهمة، كأستراليا ونيوزيلاندا وإندونيسيا ومتقدمة تكنولوجيا، ككوريا الجنوبية وصاعدة، كماليزيا وفيتنام وأخرى نفطية، كبروناي، وكذلك سنغافورة باعتبارها أحد أهم المراكز التجارية والمالية في العالم، حيث يتوقع أن تستغل الصين وضعها وكبر حجم اقتصادها وقوتها التجارية لتعزيز مشروعها الطموح «الحزام والطريق»، فهذا التجمع التجاري الجديد يضم 2.2 مليار نسمه، أي 30% من سكان العالم، وكذلك 30% من الناتج الإجمالي العالمي.
ومع أن هناك اتفاقاً آخر يضم الولايات المتحدة، يسمى «اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ»، فإن الخلافات الأميركية الصينية للهيمنة أعاقت تنفيذه، مما يمنح الاتفاق الجديد فرصة أفضل للتنفيذ مع حلول العام القادم، خصوصاً وأنه لا يوجد منافس قوي للصين ضمن هذا التحالف بعد انسحاب كل من الولايات المتحدة والهند.
ويرمي الاتفاق بصورة مختصرة إلى خفض التعريفات الجمركية وتسهيل التجارة في السلع والخدمات، بما فيها التجارة الإلكترونية والاتصالات وتشجيع الاستثمار، مما سيؤدي إلى خفض التكاليف وتعزيز التبادل التجاري وانتقال الاستثمارات، حيث لم يكن من السهولة بمكان التوصل إلى مثل هذا الاتفاق بين دول متناقضة في توجهاتها ومتصارعة داخل منطقة جغرافية محدودة، كبحر الصين الجنوبي، إذ عبّر عن ذلك بوضوح وزير التجارة الماليزي قائلاً: «بعد ثماني سنوات من المفاوضات والدماء والبكاء وصلنا أخيراً إلى لحظة إبرام الاتفاقية»، على اعتبار أن فكرة المفاوضات بدأت في عام 2012.
وبالإضافة إلى المكاسب المادية التي ستتحقق للبلدان المنضوية في هذه الشراكة، فإنه يمكن اعتبارها مكسباً للصين ضمن جولات التنافس مع الولايات المتحدة، حيث سيعزز ذلك من الموقع الجيوسياسي للصين في هذه المنطقة خصوصاً وفي العالم عموماً، مما قد يدفع الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن إلى إعادة النظر في مسألة الانسحاب من هذا الاتفاق، والذي ترك الساحة دون منافسة للتنين الصيني.
من جانب آخر، يشير مثل هذا الاتفاق إلى طبيعة سير التوجهات والتطورات الدولية، بما فيها الاقتصادية، والذي يعبر عن صعود قوى جديدة وتراجع للقوى التقليدية، وهو ما يتطلب من كافة بلدان العالم إعادة بناء تحالفاتها وفقاً لهذه التطورات، فمن يتحكم في طرق وممرات التجارة، وبالأخص البحرية منها سيضمن هيمنته على التجارة الدولية وما سيترتب عليها من مكاسب جيوسياسية، حيث ستقف المصالح الاقتصادية على رأس أولويات الدول بدليل الخلطة الغريبة للبلدان المنضوية ضمن اتفاق الشراكة الجديد، والتي لم تعر اهتماماً للانسحاب الأميركي، وبقيّت ضمن اتفاق تقوده بكين التي تتصارع مع بعض أعضائه في أكثر من موقع.
وفي سياق هذا التوجه العالمي، يبدو العالم العربي وكأنه يعيش في كوكب آخر، إذ لا تعنيه المصالح الاقتصادية والتجارية والمكاسب المادية التي تؤدي إلى تحسين مستويات المعيشة وتوفير الوظائف، حيث تعيش العديد من البلدان العربية صراعات عصبوية أدت إلى انهيار تام لاقتصاداتها، مثل سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا، بينما تعيش دول عربية أخرى انقسامات حادة انعكست سلباً على أوضاعها ونموها الاقتصادي. وبالنتيجة، فإن مسار الاقتصاد الدولي وحماية المصالح تسير وفق هذه التوجهات والنظم الجديدة، أما مَن يسير عكس هذا التيار فسيجد نفسه خارج العصر يعيش حالة من الفقر والتخلف وفقدان الأمل.

*مستشار وخبير اقتصادي