ربما تكون السنوات الثلاثون القادمة فترة لإعادة النظر في كل شيء تقريباً، ذلك أنه ما من انتقال من مرحلة إلى أخرى، إلا ويكون مسبوقاً بعمليات إعادة نظر شاملة وعميقة في الأفكار والسياسات والموارد والعلاقات. وبالطبع، فإنها ثورة ليست الأولى، ويمكن لمواليد ستينيات القرن العشرين وما قبل أن يتذكروا ثورات وتحولات كبرى شهدوها في الإدارة والسياسة والتعليم والصحة والثقافة والسلوك الاجتماعي، لكن ما يحدث اليوم أن الوباء، كما هو شأن الكوارث، يؤسس لمرحلة جديدة يكون الانتقال إليها سريعاً ومفاجئاً وليس متدرجاً، كما حدث في العقود القليلة الماضية، حين تابعنا تحولات كبيرة وجوهرية، لكنها مرت على نحو بطيء ومتدرج.
عندما ينحسر الوباء، ويتوقع أن يحدث ذلك على نحو نهائي بعد سنة، ونبدأ في العود إلى حياتنا السابقة، فلن تعود الأعمال والمؤسسات كما كانت من قبل الجائحة، لأنه وببساطة تتشكل على نحو سريع مجموعة من القيم والأولويات الجديدة والتي تعيد تشكيل المؤسسات والموازنات واتجاهات الإنفاق العام والخاص أيضاً.
وسوف تكون التنمية الإنسانية أكثر الاتجاهات والسياسات مجالاً للمراجعة، وبالطبع فإن الصحة العامة سوف تكون مدار السياسة والتعليم والتنمية بشكل عام، لأنه -وكما كان يدعو التنمويون والإصلاحيون من قبل ولا يُستمَع إليهم إلا قليلاً- فإن التقدم الشامل يعتمد على إنسان صحيح الجسم، والصحة الجيدة تعتمد على عادات صحية وغذائية واجتماعية سليمة وإيجابية أكثر مما تعتمد على الأدوية والاختراعات التكنولوجية. 
وللأسف الشديد، فإنه عندما يكون التقدم التنموي لا يحتاج إلى استثمارات مادية كبرى وتدخلات من شركات ومصالح اقتصادية يتعرض للإهمال والنقص، وفي الوقت نفسه تنشأ وتتطور اتجاهات أخرى تسندها مصالح واستثمارات وأسواق، لكنها عمليات رغم ضخامة رأسمالها واستثماراتها، لم تكن فاعلة أو حاسمة في مواجهة الوباء، ووجد العالم ببداهة أنه في حاجة للعودة لبناء الاتجاهات الفردية والمجتمعية والتعليمية التي توجه الأفراد والأسر والمجتمعات إلى التقدم الصحي، بناء على عادات واتجاهات ثقافية واجتماعية وغذائية، مثل النظافة والرياضة والغذاء الجيد والكافي وتلافي زيادة الوزن وتقوية المناعة الصحية وتهوية المنازل والمباني، والحفاظ على البيئة من التلوث والضرر، والتقليل من أسباب العدوى وانتقال المرض، مثل الاقتراب الجسدي والزحام والاستخدام المشترك للأثاث والأدوات.
وستعود السياسات والاتجاهات الاقتصادية إلى التوسع في الزراعة والصناعات الغذائية، ذلك أن التحدي الرئيسي بعد مواجهة المرض كان تأمين المواد الغذائية، وكانت الأمم والمناطق الأقدر على توفير الغذاء أكثر قدرة على تحمل الإغلاق والحظر الصحي، والأقل تأثراً بتراجع أو تعطيل حركة السفر والنقل وخطوط الإمداد الغذائي.
ويبدو واضحاً أنها اتجاهات تنموية، وإن كانت تقدمية وفاعلة، فهي في حقيقتها عودة إلى المبادئ الأساسية للحياة كما كانت قبل التطور الصناعي والاقتصادي، حيث أدى التطور والتخصص في الأعمال والوظائف والتخصصات والاقتصادات إلى الاستغناء عن كثير من الأعمال والموارد الأساسية. وقد أعادتنا المراجعات إلى هذا الجزء المؤسس للحياة والعمران، وتؤكد أنه مهما تقدمنا في العلوم والصناعات لا يمكن تجاوز مهارات الحياة والموارد الأساسية، وأن التخصصات العلمية والمناهج الدراسية التي أغرقنا بها الأجيال في المدارس والجامعات، رغم كل ما أُنفق عليها من أموال وأوقات وجهود، لم تعلِّم الأجيال كيف تعيش حياتها. فقد أسرفت المجتمعات في إعداد الفاعلين الاجتماعيين وتهيئتهم وفق منظور مسبق وليس وفق احتياجات الناس والمهارات التي تَلزَمهم. لقد علمناهم ما نحتاجه وليس ما يحتاجونه، واليوم يجب أن نواجه هذه الحقيقة، وكلما أسرعنا في ذلك نقلل الهدر والخسائر.

*كاتب أردني