يعيش النظام العالمي في ظل جائحة كورونا أسوأ أزماته، وقد بدأت تظهر له محددات جديدة وإكراهات غير مسبوقة، فالجائحة أبانت أن النظام العالمي مريض، وأن الدولة القومية في أزمة، وأن المرحلة الحالية والمقبلة بدأت تشهد تغيرات في كل شيء بدءاً من أسس هذا النظام وأولويات الدولة القومية وأسس العلاقات الاجتماعية الجديدة.
ونرى أن هذا النظام يسابق الزمن لمواجهة تحديات العصر في ثلاثة مجالات رئيسية، أولها تعزيز قدرة العالم على مقاومة الأمراض المعدية، وذلك من خلال تطوير البحث العلمي والاستثمار فيه وتعزيز آلياته. لقد فهم الجميع أن المنظومة الصحية عليها مدار مستقبل الملايين من البشر، وأن أية زيادة متوقعة على درجتين مئويتين كحد أقصى لارتفاع حرارة الكرة الأرضية عن النسبة الأصلية، ستهلك الحرث والنسل. أما المجال الثاني فهو السعي الحثيث لمعالجة الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي جراء تفشي الوباء، والتي لم يسبق أن شهدت البشرية مثيلا لها، مع السعي لحماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي بصفته المجال الثالث الذي ينبغي التركيز عليه، وهذا ليس بالأمر الهين.
وإذا أخذنا مكونا من مكونات هذا النظام العالمي الجديد، وأعني بذلك الاتحاد الأوروبي، فسنفهم الدعوة الأخيرة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، عندما دعت نظراءها ‬الأوروبيين ‬إلى ‬عدم ‬إغلاق ‬حدود ‬دولهم ‬مرّة ‬أخرى ‬في ‬خضم ‬الموجة ‬الثانية ‬من ‬تفشي ‬فيروس ‬كورونا ‬السريع ‬في ‬دول ‬القارة. ‬وقالت ميركل: «‬بالنسبة ‬لألمانيا، ‬الدولة ‬الواقعة ‬وسط ‬أوروبا، ‬من ‬المهمّ ‬أن ‬تبقى ‬الحدود ‬مفتوحة ‬وأن ‬يواصل ‬الاقتصاد ‬العمل ‬وأن ‬نحارب ‬الجائحة ‬معاً». ‬وبالطبع فإنه في ‬ظل ‬الأزمات ‬الكبيرة ‬لا ‬تفكر ‬الدول ‬إلا ‬في ‬نفسها، ‬خاصة ‬إذا ‬كانت ‬أزمات ‬بحجم ‬فيروس ‬كورونا ‬الذي ‬بدأ ‬يملأ ‬مستشفيات الدول ‬الأوروبية ‬بالمرضى، ويدفع هذه الدول ‬تباعاً ‬لإعلان الإغلاق وفرض ‬الحجر ‬الصحي ‬الكامل.
كما نفهم قرار الاتحاد الأوروبي في الأيام الأخيرة وضع ميزانية تقدر بنحو 220 مليون يورو من أجل نقل المصابين بـ«كوفيد-19» من دوله الأشد تضرراً، والتي تعاني نقصاً في الأسرة، إلى دوله الأخرى التي تتوافر بها أسرة فارغة. وقد شددت رئيسة المفوضية الأوروبية على أهمية «تشارك بيانات دقيقة آنياً» حول قدرات وحدات العناية المركزة في الدول الأعضاء. ودعت المسؤولة إلى تعزيز ترابط التطبيقات المستعملة لتتبّع الإصابات في كلّ دولة، وقد رُبطت ثلاث منها حتى الآن بنظام وضعتهُ بروكسل.
لكن أولوية الأولويات هي مسألة حرية الحركة التي تعطّلت مع ظهور الوباء، والتي لا يريد حراس الاتحاد الأوروبي إيقافها مع الموجة الثانية لما لذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية بل ونفسية على الدول الأعضاء.
الاتحاد الأوروبي هو عبارة عن مشروع فكري وحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح حقيقة ومشروعاً سياسياً حقيقياً بمؤسسات قوية تجمع رؤساء دول ووزراء حكومات وخبراء وبرلمانيي أمم. ورغم تباين دولها من حيث درجة التقدم الاقتصادي والمالي والفلسفة السياسية والاجتماعية السائدة، فقد استطاعت مجتمعةً من خلال حكمة بعض من أعضائها والمبادئ الوحدوية السامية، إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وساهمت في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية حقيقية، وتحويل أسواق الدول المشتركة في حركة التكامل والاندماج الأوروبي إلى سوق داخلية واحدة. وتمكن الاتحاد الأوروبي من تحقيق هذه المنجزات وغيرها بفضل عوامل الثقة السائدة، وبفضل عوامل سياسية واقتصادية وتشريعية، مما جعله نظاماً سياسياً وقانونياً، له طابع خاص.
ويقيني أن مواطني الاتحاد الأوروبي يخشون الآن تداعيات غلق الحدود بين دوله أكثر من أي وقت مضى، لأن الثقة التي بني عليها الاتحاد ستنعدم، كما ستتهاوى كل الأسس التي تجعل من العمل الأوروبي المشترك مسألة مصيرية للجميع. ومما يزيد الطين بلة، أنه في ظل هذه الجائحة، يصعب على الدولتين الرئيسيتين في الاتحاد الأوروبي، ألمانيا وفرنسا اللتين تقودان بطريقة مباشرة وغير مباشرة سفينته، القيام بمهامهما الريادية وإصلاح ما اعوج في المسيرة الاندماجية، لأن الأزمة لها علاقة بحياة الناس وبصحتهم، وبجائحة تأتي على الأخضر واليابس ولا تنتظر تأشيرة المرور من بلد إلى آخر.