هل المحاكمات بوسعها أن تتفادى القصص؟ إنها تتجلى كثيراً كحكايات كُتبت في سجلات المحاكم وأضابيرها، أبطالها الجناة والمجنى عليهم وممثلو الدفاع والقضاة الجالسون على المنصات ليضعوا سطر النهاية، ومكانها معروف ومحدد ومتوارث ومتكرر، وزمانها هو كل العقود والقرون التي عرف فيها البشر مؤسسات العدالة الحديثة بمبانيها ومعانيها ومراميها؟!
ومجموع هذه القصص يحمل في باطنه وظاهره معاً مسار العدالة ومصيرها في بلد ما، ويرسخ معالم الخبرة القانونية، التي تصقل فهم اللاحقين مما تركه السابقون في الأقوال والأفعال، من حيل المحامين وحججهم، وبصائر القضاة وتقديرهم، وألاعيب الجناة ومكرهم، ونزاهة الشهود وتزويرهم.
هذه الأطراف الأربعة، المتنازعون والمدافعون والذين ينفون التهم أو يثبتونها ومن يقضون بينهم، تتكرر في القصص، كأركان ثابتة، حيث لا تخلو منها تقريباً أي حكاية في قضية، لكن الحكايات مختلفة بين الأمكنة والأزمنة والثقافات والجهات والطبقات والبيئات الاجتماعية عموما.
وتخرج هذه القصص على الألسنة من أروقة المحاكم ومكاتب المحامين إلى ساحة المجتمع الرحيبة، فتتردد على ألسنة كل المشتبكين مع العدالة في علاقة ما، وترسم خط العدل في المجتمع، بين راضين عنه، وساخطين عليه، ومتشككين فيه. وهذه الحالات النفسية والعقلية الثلاثة قد لا يمكن البرهنة عليها عند أصحابها، إنْ تجنبوا الحكايات تماماً.
الناس يسعون إلى المحاكم مقبلين أو مترددين، وفي رؤوسهم نصف الحكاية التي صنعتها القضية التي يهتمون بها، ثم يجلسون في قاعات ناظرين إلى المنصة بقضاتها، والصف الأول بمحاميه، والقفص بالمتهمين، منتظرين أن يضيفوا إلى الحكاية نقلة جديدة، قد يكون استرجاعاً أو استباقاً في مجريات المحاكمة، وقد لا يعدو أن يكون توسعة وإفاضة في التفاصيل، انتظاراً لجلسة أخرى، يحدث فيها تقدم إلى الأمام، وأحياناً تظهر حقائق تعيدها إلى الخلف.
ورغم أن القضية إن كانت واحدة في أوراق المحكمة، فإنها تدور في أذهان هؤلاء الساعين بطرق متعددة، فكل منهم يمثل «المتلقي» أو «القارئ» الذي يستقبل سير القضية بفهمه ومصلحته وطريقته في التقييم، وما يتمناه لها من نهاية، والتي تتناقض بين الذين هم من أهل الجاني، والذين هم من أهل المجني عليه، أو تتفاوت بين الواقعين في المنتصف من الأقارب، أو الجيران، أو حتى أولئك الذين يهوون حضور المحاكمات من الجمهور العادي، وأوسعه أولئك الذين يتابعون أخبارها في الصحف لبعض القضايا، التي قد تتقدم ذيوعاً لتصير محل اهتمام الرأي العام.
القصص لا تنتهي في كل صنوف المحاكمات والتقاضي، سواء كان يتعلق بالأحوال الشخصية أو القضايا المدنية والجنائية، وقد يلعب قانون الإجراءات الدور الذي تمارسه الحيل الفنية التي يوظفها الأديب في سبيل صناعة المفاجأة والدهشة، والثغرة التي يستخدمها في إحداث النقلة التي تسهم في تطوير الحكاية إلى الأمام.
فضلاً عن هذا، فإن بعض المخالفات والجنح والجرائم يقوم المخططون لها ومنفذوها بصناعة سيناريوهات مسبقة، يتخذ فيها هؤلاء موضع المؤلفين، ويتركون نهايتها مفتوحة، دون أن يدروا، فلمَّا ينكشف أمرهم، يأتي من يضيف إليها خلال المحاكمة، بينما هم يقفون أحياناً عاجزين عن المساهمة في هذه الإضافة، أو مندهشين حيالها.
ومما يعطي هذه القصص، أحياناً، جانباً من «الأدبية» أو الشروط الفنية للإبداع الأدبي، تلك البلاغة التي تنطق بها أحياناً أفواه الدفاع وأقلامهم، وكذلك ألسنة القضاة في تعليقاتهم وصياغتهم لحيثيات الأحكام، ومن المؤكد أن الطرفين يخرجان فيما بعد ليتحدثا، بطريقة مختلفة، في حياتهم الخاصة، مع ذويهم وأصدقائهم، وبعضهم قد يقوم بتسجيل وصياغة هذه الحكايات. صورة العدالة في أي دولة لا تتجسد فقط في الدستور والقوانين ودقة ونزاهة الأحكام وتوافر شروط التشريع والتقاضي، إنما يصنعها أيضاً إدراك الناس لها، وحديثهم عنها، الذي يأتي غالباً في شكل حكايات أو قصص.