مرَّت على العِراق يوم أمس (30/6/2020) الذكرى المائة للثَّورة على البريطانيين، بما عُرف بـ «ثورة العشرين». إنه زمَن طويل، بعد المائة صارت هذه البلاد بيتَ عنكبوت، هُدمت الدَّولة كاملةً، مع أنها خلال القرن شيدت مقومات التَّقدم، وغدت رقماً بين دول العالم، أرض زاهية بالثَّمرات قبل أن يقول فيها زهير بن أبي سُلمى (609ميلادية): «فَتغلِلْ ما لا تُغل لأهلها/قُرَّى بالعِراق مِن قفيزٍ ودِرهمِ» (شرح المعلقات السَّبع). يقول شارح البيت (ت486هجرية): «إن المضار المتولدة مِن هذه الحروب تُربى على المنافع المتولدة مِن هذه القُرى»، ومغزى الاستشهاد واضح. فالبيت مِن معلقة قل مثيلها لإشاعة ثقافة السَّلام، وأرخ لخيرات العِراق، مع العِلم أن «القفيز» يُعادل 16 كيلو غراماً مِن أوزان اليوم!
سيحتفل مَن يحتفل بثورة العشرين، على أنها باكورة الحركة التَّحررية العراقية الحديثة، لكنْ ما المعنى مِن طلب التَّحرر، ويمرّ قرن مِن الزَّمان ليعود العراق فيه إلى أردأ ما كان قبل (1920)! عاد مشلول الإرادة والسياسة. وظفت العديد مِن التنظيمات لهيب «ثورة العشرين»، لتنشيط وجودها السياسي، وأجداد الجميع أصبحوا ثائرين طلباً للجاه، مع أن الجميع يعرف ليس شيخ العشيرة ولا رجل الدين تحرك بدافع بناء دولة حديثة، على انقاض أسوأ احتلال وهو العثماني.
برزت بين الاحتلالين، البريطاني والأميركي، شخصيتان، سيدة وصلت البصرة (1916)، اعتبرت إعمار هذه البلاد مسؤوليتها، المس بيل (ت1926)، التي عُرفت بالخاتون، وفي الاحتلال الثاني، بعد نحو مائة عام، وصل بغداد رجل يُدعى بول بريمر، أخذ هذا على عاتقه مسؤولية الخراب وتأسيس الفساد. توفت الخاتون ببغداد ودفنت في إحدى كنائسها، ومع إسقاط تمثال القائد الذي احتل بغداد (1917) الجنرال مود صبيحة 14 يوليو 1958 إلا أن قبر الخاتون، وهو معروف للجميع لم تصله فؤوس النَّباشين، مع العلِم أن النَّبشَ وصلبَ الأموات جرى كثيراً داخل العِراق.
ماذا فعل بريمر لتحقيق الخراب؟! اعتمد الطَّوائف بديلاً عن الدَّولة، والبدء بإشاعة ثقافة الفساد، والحديث لشهود عيان، وبينهم وزراء وأعضاء مجلس حُكم، أن بريمر كان يُسلم قادة الأحزاب والمسؤولين الجُدد أموالاً بالأكياس، ويعطيهم صلاحية التصرف بها بلا قيد وسجل. فتصوروا مَن كان يعيش على المعونة الاجتماعية ببلاد الغرب، تسلم المنصب مع مائتي مليون دولار، وبعضهم أكثر بكثير، كيف سيشعر بوجود دولة؟! لم تكن الأموال هدية أميركية، إنما مما وجده بريمر في بنوك بغداد، كانت تلك اللَّبنة الأولى للفساد الكبير.
كانت فكرة الخاتون أن شيخ العشيرة الخاضع للمرجع الديني لا يساعد على بناء دولة حديثة، وكأنها تنبهت مبكراً لممارسة الولي الفقيه، فلا الشيخ ولا المجتهد قادران على تأسيس دولة، جاء ذلك في رسالة لأبيها (3/10/1920). قالت: «المشكلة هي المستقبل»! أرادت بناء دولة مدنية والثنائي المذكور لا يريدان أن يكونا جزءاً مِن دولة (رسالتها 5/9/1920)، لأن في ذلك خسارة لسطوتهما. بعد مائة عام أدركنا أن الخاتون كانت محقَّةً.
بينما قضى بريمر عامه بتأسيس ما يشل المستقبل، بإنهاض الطائفية، تاركاً البلاد مفتوحة على الجهات الأربع، بلا قيود، فدخل الكواسر والقوارض. اهتمت الخاتون بآثار العراق، فكان أول مُتحف للآثار، وأول مكتبة تأسست على يدها، وبدأت تأخذ بيد المرأة العراقية. اهتمت بالزراعة، وها هو العراق بفضل تأسيس بريمر يستورد الطماطم والبقول! اعتمدت على أبخل وزير مالية على نفسه وأمهرهم لتأسيس نظام مالي، عارض به الإنجليز أنفسهم، إنه ساسون حسقيل (ت1932)، بينما وزراء مالية زمن بريمر فمهارتهم بعناوين الطوائف.

ألم تروا كم حجم الخذلان، أن تشيد الخاتون مُتحفاً، ليفتح جيش بريمر، بعد مائة عام، بواباته للناهبين! ومن ذلك اليوم وحتى الآن صارت السياسة، بما نطق به الخطيب محمد علي اليعقوبي (ت1965): «ما القوم إلا لصوصٌ كلما ذهبت/ عِصابةٌ منهم جاءت عصابات». ما بين فساد تأسيس بريمر وعفة الخاتون بوناً شاسعاً. كتبت لأبيها عن نفقات معيشتها: «ألا يلتمس المرء الحصول على المزيد» (10/10/1920). ليسمع أصحاب هبات بريمر مِن الخزينة، وليسمع أصحاب الامتيازات، مِن أهل العمائم والأفندية!