تناولت المقالةُ قبل الماضية، وكان عنوانها «الإفلات من العقاب»، العربدةَ التركية في عالمنا العربي وفي شرق المتوسط، والتي لم يُقدَّر لها أن تُواجَه كما ينبغي، في ظل التخاذل الدولي الناجم عن سياسات المصالح الضيقة، أو قصر النظر الذي لا يرى ما تنطوي عليه هذه العربدة من تهديد لا يقتصر على العرب وحدهم، وإنما يطال الأوربيين أيضاً. وعندما تقدم الرئيس المصري في 6 يونيو الجاري، بمبادرته لتسوية النزاع بدعم عربي واضح من دولة الإمارات والسعودية والبحرين والأردن، سارع حماة الإرهاب إلى السخرية من هذه المبادرة، باعتبارها تسليماً بالهزيمة وستاراً لعدم إراقة ماء الوجه، وفاتهم أن يدققوا في المبادرة، ليتأكدوا أن مَن يريد ستاراً يختفي وراءه، لا يشترط تفكيك ميليشيات الإرهاب، وتسليم أسلحتها إلى الجيش الوطني، كخطوة على طريق استعادة الدولة الليبية. وعموماً، فسرعان ما جاءت لحظة الحقيقة، لتكشف عن أن «البديل العربي» في مواجهة العربدة التركية، قد نزل إلى ساحة المعركة، لكي يعيد التوازن إلى الصراع الدائر على أرض ليبيا، ستاراً لأطماع إقليمية وعالمية. فقد أكد الرئيس السيسي، السبت الماضي، بوضوح تام، على موقف الدول العربية التي تتصدى للإرهاب، ولما يجري في ليبيا في هذه المرحلة الخطيرة، التي تفاقم فيها التدخل التركي لحماية الإرهاب، ويتمثل هذا الموقف في السعي الصادق لتسوية سياسية ليبية شاملة، تستبعد كلاً من الميليشيات الإرهابية والتدخل الخارجي، وتستند إلى كل المرجعيات الدولية السابقة، وآخرها مؤتمر برلين، ويتطلب هذا - بداية - وقفاً فورياً لإطلاق النار، دعا لأن يكون عند الخطوط الحالية للقتال بين طرفي الصراع. فماذا لو أن الإرهاب وحماته لم يتوقفوا، وأغرتهم نشوة الانتصارات الأخيرة التي حققوها بفعل التدخل التركي والمرتزقة الذين جلبهم بالاستمرار في القتال طمعاً في المزيد؟ هنا، جاءت الرسالة شديدة الوضوح، وهي أن سرت خط أحمر، ليس فقط للأمن المصري، وإنما للأمن العربي والإقليمي، ولعموم الأمن والسلم الدوليين، والمعنى واضح، وهو أن التدخل العسكري المباشر مطروح كخيار أخير، خاصة وقد جاءت هذه التصريحات في أقرب قاعدة عسكرية مصرية للحدود الليبية، كما أن الرئيس السيسي لم يدع مجالاً لشك في توجيه قواته إلى الاستعداد للقيام بمهام قتالية داخل الحدود المصرية وخارجها، وكان واضحاً أنه يعبر في موقفه هذا عن القوى العربية الوازنة التي تتصدى للإرهاب في منطقتنا، وفي مقدمتها الإمارات والسعودية والبحرين، التي سرعان ما أصدرت بيانات تؤيد ما ذهب إليه الرئيس السيسي، تأكيداً لوحدة الرؤية بين هذه الدول لتهديدات أمنها والأمن العربي ككل، والاتفاق على سبل مواجهة هذه التهديدات.
وقد سارع بعض المرجفين إلى القول بأن هذه محض تهديدات، وهؤلاء أتركهم للتطورات الميدانية ترد عليهم، وذهب آخرون إلى القول بأن الميدان الحقيقي لإظهار القوة هو معركة «سد النهضة» وليس سواها، والرد أن مصر قادرة على أن تواجه تهديدات أمنها بالتوازي، وليس على التوالي. وحذّر فريق ثالث من مغبة الانخراط في عمل عسكري بتكلفة عالية في هذه الظروف الصعبة، والرد أن حماية الأمن القومي تهون معها أقصى التضحيات، كما أن تكلفة السكوت على التهديدات، سوف تكون أفدح بكثير من تكلفة مواجهتها. وتذرع نفر أخير بحجة الشرعية الدولية، وهو أكثر ما يضحك في الموضوع، فبغض النظر عن أن التلويح الأخير بعمل عسكري يستند إلى المؤسسة الليبية الوطنية الوحيدة المنتخبة، وهي البرلمان الليبي، وإلى دعم القبائل الليبية وتأييدها، وإلى متطلبات الدفاع عن النفس.. فمن يرفعون قميص الشرعية الدولية في وجه التحرك العربي، هم أول من سحقها وضرب بها عرض الحائط.