يعيدنا فيروس «كوفيد - 19» قسراً لذكريات البشرية وتجربتها المؤلمة مع الأوبئة، فمنذ العصور القديمة التهمت الأمراض أرواح مدن وقرى كاملة، في غضون بضعة أشهر أو أقل، ما أثار رعب السكان في مواجهة شر غامض كطاعون أثينا (عام 430 قبل الميلاد)، فاتكاً بأكثر من مئتي ألف من سكان اليونان القديمة. وطاعون أنطوان (الطاعون الجاليني) (160م) الذي ضرب الإمبراطورية الرومانية في عهد ماركوس أوريليوس وكومودوس مسبباً وفاة عشر ملايين شخص، والطاعون الأسود (1347-1352)، الذي أزهق أرواح نصف سكان القارة الأوروبية (40 مليوناً) تقريباً، وفيروس الإيدز الذي أصاب أكثر من 37 مليون إنسان.

تتزايد صفحات الأرشيف في التاريخ الطبي، تاركةً قوة معلوماتية وبيانية يستند إليها في دراسة مفاجآت العصر الحديث، واتفق مع الكاتب الإنجليزي هكسلي بضرورة الدفع بتلك التشخيصات الدقيقة التي تنقل العالم لإعادة النظر في علاقته بالتاريخ، لأن ذكاء الماضي أساس اختراع المستقبل، وبما يتعلق بذلك يعتقد الفيلسوف الألماني «فريدريش هيجل» في كتابه «دروس في فلسفة التاريخ» أن «الملوك ورجال الدولة والشعوب موصى بهم للتعلم بشكل أساسي من خلال تجربة التاريخ، لكن التجربة والتاريخ يعلماننا أن الشعوب والحكومات لم تتعلم شيئاً من التاريخ، وأنهم لم يتصرفوا أبداً وفقاً للقواعد التي كان يمكن استخلاصها منها»، فالامتناع أو تناسي أهمية التمعن في التاريخ، والبناء على معطياته تعد مشكلة أكبر من المشاكل الحاضرة.
ويكون ذلك بدرايتنا الكاملة بأن ضيفنا الثقيل (كوفيد - 19) يهدد حياة البشرية اليوم، لكنه يقودها نحو ابتكار أساليب جديد في التدبير التعاقدي ليوصلها إلى بر الأمان، إذ استجابت الدول إلى الإكراهات الجديدة، أو «ثمار كورونا»، فنظرت إلى مطالب الناس، وحقهم في العيش الكريم والآمن، لتحشد الموارد البشرية كافة: اللوجستية، والمالية، والاقتصادية، في لُحمة وطنية رائعة وفريدة من نوعها تعبر عن التشبث بالمصير الجماعي في ظل سياسات التضامن والتكافل الإنساني.
ها هي الجائحة الكورونية تضعنا مرة أخرى أمام إشكالية: «أي نموذج تنموي نريده اليوم لمجتمعاتنا؟»، وإلى جدول أعمال فرض التعاون بين القادة السياسيين والاقتصاديين مع المفكرين والمثقفين وصناع الرأي والمؤثرين فيه، لتلزمهم التأمل الجاد في الأسس التحفيزية للخيارات المستقبلية في الاقتصاد والسياسية والثقافة من أجل التنمية. فالعالم اليوم يقاوم الرعب والقلق، ويشهد في الوقت ذاته عودة قوية لوظيفة «الدولة» في بُعدها الاجتماعي، ودورها في تحقيق التلاحم الأممي، خاصة مع الحكومات التي تفتقر إلى ضمانات غد كالرفاهية والخيال، وأدوات الابتكار الاجتماعي والسياسة العامة.
ومنذ زمن يسبق تأكيد زعيم السوفسطائيين الفيلسوف اليوناني بروتاجوراس، آمن الأفراد- في قرارة أنفسهم- بأن الإنسان هو مقياس كل شيء، فالخير والشر الصواب والخطأ، كلها يجب أن تُحدد بحسب حاجات الكائن البشري، أي يجب أن يبقى الإنسان نهاية التطور. وإن الحث السقراطي «اعرف نفسك» المنقوش في معبد «دلفي» لا يزال سارياً اليوم ملوحاً ومنادياً لالتفات البشرية للضرورة الحتمية لمعرفة من نحن؟ ليروي ظمأ سؤاله الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قائلاً: «كل الكائنات المعقولة تخضع للقانون الذي لا يجب على كل منهم أن يعامل نفسه على أنه وسيلة، ولكن دائماً في الوقت نفسه الذي ينتهي فيه بنفسه». متحدياً إقصاء أي إنسان «متفوق بأي ثمن»، ولا يعترف بأي مكافئ له، مقراً بكرامته الإنسانية، ومتمتعاً بالقيمة الجوهرية والمطلقة لمجرد أنهم بشر، وفقاً للفيلسوف الفرنسي «بول ريكور».
على العالم بقواه أن يتعلم وضع الإنسان في صميم اهتماماته، آخذاً بعين اعتباره، استمرار أولوية الإنسان على أي أولوية أخرى، سواء كانت اقتصادية، أو مالية، أو سياسية، أو جيوسياسية، خاصة في زمن الأزمات. إنها حض على التحرك نحو نظام عالمي جديد أكثر إنسانية.