عانى التعليم الوطني الأساسي والجامعي في ديارنا وفي العالم من صعوبات جمة، بسبب إقفال المدارس والجامعات جراء كورونا، وهو أمر لم يحدُثْ من قبل لا عندنا ولا عند العالم، وفي بعض البلدان العربية، مثل لبنان، فإنه عندما كان التعليم الرسمي أو الجامعة اللبنانية، تحصل فيها إضرابات وطنية أو مطلبية، فإن التعليم الخاص، والجامعات الخاصة، كانت تتابع مسيرتها دونما توقف، ويجري الحديث اليوم عن أمرين اثنين: أولهما «التعليم عن بُعد» في المدارس والجامعات دونما حاجة للصفوف والكتب والاجتماعات الحميمة، والحياة المدرسية في الساحات، والحياة الجامعية في الكامبوس، وثانيهما المشكلات الهائلة التي تُعاني منها المدارس الخاصة والجامعات الخاصة، لأن الطبقات الوسطى التي ترسل أبناءها وبناتها للمدارس الخاصة والجامعات قد انكسرت، وتعجز في معظمها عن دفع الرسوم والأقساط، وعندما ذهبت إدارة المدارس الكاثوليكية الراقية بلبنان إلى رئيس الجمهورية للشكوى، لأن الناس لا يدفعون، فمن أين ستدفع تلك المدارس أجور الأساتذة والإداريين؟ قال لهم الرئيس: الدولة مفلسة، وبالكاد تستطيع الإنفاق على المدارس والجامعة الحكومية! لذا قال رئيس المدارس الكاثوليكية قبل أسبوعين: إن لم يكن هناك حل قريب، فإن 80% من مدارسنا ستتعرض للإقفال!
لقد تغيرت الرؤى تجاه التعليم تغيراً شاسعاً خلال قرن وأكثر، وفي الأصل هناك مقاربتان لمسألة التعليم في العالم العربي: في أوروبا إبّان صعود الدول القومية، والانفصال عن الكنيسة، صارت التربية الوطنية أيديولوجيا مطلقة، فينبغي أن تتولى الدولة التعليم بالكامل: الأساسي والجامعي، لأن له جانبين: جانب معرفي حديث، وجانب تربوي، والجانب التربوي في نفس أهمية الجانب المعرفي، إذ ينبغي أن تكون التنشئة الوطنية في المدرسة والجامعة بيد الدولة، ولا يجوز إعطاء الفرصة لجهات خاصة (دينية أو غيرها) لِتُفرِّق الكلمة عن مقولة الشعب الواحد والدولة الواحدة للشعب الفرنسي أو الألماني، أما المقاربة الأُخرى فهي المقاربة الأميركية، وتقوم على أن التعليم الخاص وفي المرحلة الجامعية بالذات هو الأفضل من حيث النوعية، ومن حيث الحرية، وتبقى للدولة المدارس والتربية الأساسية، ولا خوف على وحدة الشعب الأميركي، لأنّ التعليم الأساسي بيد الدولة، بما في ذلك الجانب التربوي الذي ينظمه الدستور والقوانين.
وصلت إلى العرب أول ما وصلت التجربة الوطنية الفرنسية في التعليم، وتقريباً في كل أنحاء الوطن العربي ما عدا فلسطين، وفيما بعد العراق، وما كانت الدولة تقليدياً تتولى التعليم أو تنفق عليه، وإنما قام على الأوقاف كما هو معروف، وفي عام 1877 تُرجم إلى العربية بمصر كتاب «تاريخ التمدن في أوروبا»، والذي يقرر أنه منذ أيام اليونان كان التعليم بيد الدولة، وبالطبع هذا غير صحيح، لكنّ جمال الدين ومحمد عبده آمَنَا بهذه النظرة والنظرية، وبحثا عن شواهد عليها في فرنسا، عندما التقيا بباريس أواسط ثمانينيات القرن التاسع عشر، والمعروف أنه منذ أيام محمد علي (1805-1849) أُبقي التعليم الديني بالأزهر، أما المدارس الحديثة فصارت الدولة تنفق عليها، وفي الربع الأول من القرن العشرين كان قد صار مسلَّماً أنّ التربية والتعليم حق الدولة الوطنية، وواجبها الذي لا ينازعها فيه أحد!
لقد مرت في النهر مياهٌ كثيرةٌ جداً، وفي العقود الأربعة الأخيرة انتشرت النظرة القائلة بأن التعليم الخاص على كل المستويات، نوعيته أحسن من التعليم العام بكل مستوياته، وبالطبع كان النموذج الأميركي في الجامعات الخاصة العريقة هو المقصود، وفي بعض الدول الخليجية، والتي تضع على كاهلها كل مهمات التعليم، شهدت افتتاح فروع لجامعات غربية من أجل تحسين نوعية التعليم.
إنّ الفارق الآن، وسط الأزمات المتعاقبة، أنّ الجهات الخاصة التعليمية، والباهظة النفقات، والتي كانت تعتمد في دخْلها وأرباحها على أموال الفئات الوسطى القادرة، تفتقر بالتدريج إلى هذا المصدر للدخل وفي المشرق كما في الغرب، وإذا عجز اللبنانيون، رواد المدارس الخاصة والمستشفيات الخاصة والمصارف، عن متابعة «تميزهم»، فلن يعجز الخليجيون. إنما ألا يستحق الأمر التعليمي، ولو تحت وطأة الأزمات، أسئلةً حول النوعية والوطنية والتنشئة، وحق المواطن، وواجب الدولة، ومستقبل التعليم؟