تخلى «حارس البوابة» في ميدان الاتصال عن موقعه، فانفتح المجال لمليارات من البشر للتعبير عن أنفسهم من دون قيود! الأديب صار يشارك متابعيه مباشرة بآخر نتاجه. والسياسي أصبح بمقدوره الحديث لمؤيديه في أي وقت يشاء. والواعظ لم يعد يفصله عن مُريديه ومتابعيه سوى «كبسة زر». الرياضي والفنان والمعماري والطبيب والأكاديمي والمحامي والكاتب والصحفي صاروا أقرب لنخبهم ومتابعيهم من ذي قبل.
تمكنت النخب من الوصول للمهتمين في دوائرها والحديث إليهم بشكل مباشر ومن دون واسطة، هذا أمر حسن بلا شك، لكن المشكلة أن المهتمين وغير المهتمين أصبح بمقدورهم أيضاً أن يتحدثوا لمفردات هذه النخب من دون واسطة كذلك، بل إنه صار بمقدورهم أن يتجاوزوا النخب ويتحدثوا فيما بينهم من دون مرشحات أو فلاتر!
انفتح الفضاء على مصراعيه، فأصبح الجاهل يقف كتفاً بكتف مع الخبير والاختصاصي. والمثقف يجلس على صوفة واحدة مع الأمي الذي لم ينل حظاً من التعليم، والواعظ الصالح يتمشى على رصيف واحد مع «الذي يشتري بآيات الله ثمناً قليلا».
لبس المجرم ثياب الأبرياء، ودخل هذا العالم الافتراضي بحثاً عن ضحاياه. وتلون السارق بألوان الشرفاء وجلس في الزوايا واضعاً يديه في جيوبه. ورسم الجاهل على وجهه ملامح الحكماء، واختفى بين الجموع باحثاً عمن يصفق له ويتبنى مروياته وأحاديثه.
إنه زمن وسائل التواصل الاجتماعي، الذي أبعد «حارس البوابة» عن موقعه، وأوكل مهمة الترشيح والفرز والانتقاء لضمير الإنسان، من غير أن يشترط وجود مواصفات معينة في هذا الضمير، أو مستكشِفات مدمجة فيه تعينه على تحديد اللونين الأبيض والأسود في اللوحات الرمادية.
كثير من الناس يعتقدون أن «الإعلام الاجتماعي» أسهم في زيادة حرية التعبير، وساعد في أن يتمكن المهمشون والمظلومون من إيصال صوتهم «كما هو» من دون أن يتعرض للتشذيب والتهذيب، كما جرت العادة، حينما يحاولون تمرير مظلومياتهم من خلال وسائل الإعلام التقليدية.
وغالى البعض بأن قال إن وسائل التواصل الاجتماعي لم تسهم في إطلاق حرية التعبير فحسب، بل إنها ساعدت في أن «تتدمقرط» العديد من الحكومات حول العالم لمسايرة الموجات الشعبية التي لا تكاد تتوقف عن الرقابة والمحاسبة واقتراح القوانين والتشريعات التي تناسب رجل الشارع البسيط. يقول «هؤلاء البعض» إن الرقابة المجتمعية التي تفرضها وسائل التواصل الاجتماعي على الحكومات هي البديل الأفضل للبرلمانات المنتخبة التي تخلى أعضاؤها عن مصالح الناس بمجرد انتخابهم، وسقطوا في لجة مصالحهم الخاصة.
لكن فات على الكثير من الناس، وعلى البعض المغالين تحديداً، أن ما يحدث اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي هو أشبه ب «ثورة تعبير» تحتاج لأن تهدأ بعد أن حققت أهدافها على مستوى العالم، فمن المعروف أن حرية التعبير لا يمكن أبداً أن تنضج، وتزدهر في زمن الثورة، بل إنها تبدأ، في حال عدم ضبطها بالقوانين، بأكل الرافضين لوجودها أولاً قبل أن تختلي بالمنتصرين لها، فتلغيهم واحداً بعد الآخر.
وسائل التواصل الاجتماعي هي أشبه بالروبوتات الذكية التي ستنقلب على المتحمسين لها في حال عدم مساعدتها على النزول من حصان الثورة، وإجلاسها في منصة «السلم الإعلامي».
على الشركات المالكة لوسائل التواصل الاجتماعي أن تبدا فوراً وبضغط من حكومات العالم بخلق القوانين المناسبة لتمرير حرية التعبير، وإلا فسيصبح المجرم والإرهابي والجاهل في المستقبل هم «حراس البوابة» لمن يسقط في فخاخهم!