عندما تشكلت حكومة لبنان برئاسة حسان دياب في أوائل يناير الماضي، أُطلق عليها بتفاؤل لقب«حكومة إدارة الانهيارالاقتصادي»، لأنه لم يعد بالإمكان تفادي هذا الانهيار، لذلك يتوجب عليها، إضافة إلى تحمّل التبعات الاجتماعية والأمنية للانهيار، إجراء إصلاحات اقتصادية غير شعبية، مثل تطهير إدارات الدولة من الفائض الوظيفي، ورفع الدعم عن الكهرباء والطحين والمحروقات، وفتح الاحتكارات العامة للمنافسة، خصوصاً في قطاعات الاتصالات والطيران والكهرباء والمياه، إضافةً إلى خصخصة بعض المؤسسات العامة. مع العلم أن هذه الإصلاحات قد تترافق مع سخط شعبي كبير وانفجار اجتماعي، لكنها ستسهم بعودة التوازن المالي ووضع الأسس السليمة للنمو الاقتصادي، على أمل أن تسمح أموال «سيدر» البالغة نحو 11 مليار دولار بتخفيف بعض الاحتقان في حال نجحت الحكومة في استعادة «الثقة» الدولية.
واللافت أن هذه الحكومة، حظيت بتشجيع القوى العربية والدولية التي أكدت التعاطي معها على أساس التزامها بالوعود والبرامج التي أطلقتها، وستترقب الأفعال لا الأقوال، لذلك سيكون الحكم عليها أكثر حزماً. لكن بعد مضي أكثر من 100 يوم على تشكيلها، لم يتمكن الرئيس دياب من تحقيق وعوده الإصلاحية، لأن المشكلة تكمن في المنظومة السياسية الممسكة بالسلطة، والتي لا تريد من الإصلاح إلا العنوان، ولو رغبت فعلاً في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، لما وصلت البلاد إلى حالة التدهور المالي والنقدي والاقتصادي. وبسبب المماطلة تصطدم الحكومة حالياً بالمجتمَعين العربي والدولي، اللذين يطالبان بـ«استعادة ثقة المستثمرين وإعادة تدفق الاستثمارات»، بما يتطلب توفير الاستقرار الأمني والسياسي، وفرض هيبة الدولة ودعم قدرتها على تنفيذ القوانين، وضمان استقلالية القضاء وإبعاده عن تأثير السلطة السياسية والسياسيين، وأخيراً اعتماد موازنة سنوية ذات أهداف اقتصادية تنموية تهتم بإطلاق مشاريع حكومية.
وبما أن الرأسمال جبان ويفتش دائماً عن الاستقرار والأمن والأمان والربح المضمون، فقد وجد ضالته في لبنان طيلة العقود الماضية حيث تعززت ثقة الاستثمار بهذا البلد الصغير، وازدهر قطاعه المصرفي حتى بلغت موجوداته 270 مليار دولار (نحو خمسة أضعاف حجم اقتصاده) وهو رقم قياسي عالمي. لكن هذه «الثقة» خسرها في أيام معدودة، بعدما خسرها نظامه السياسي منذ سنوات عدة متأثراً بنتائج انعكاس التطورات الإقليمية على استقرارة الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي. وسجلت المصارف تراجعاً كبيراً في نشاطها وهروباً لقسم من ودائعها قدر بـ30 مليار دولار، حتى أصبح الاقتصاد على طريق «الانتحار»، نتيجة اختراق مبدأ الحريات، مع تطبيق «الكابيتال كونترول» واعتماد«الهيركات»، رغم تأكيد رجال القانون أن المس بالودائع مخالفة دستورية صريحة للنظام الاقتصادي الحر، وللمبادرة الفردية والملكية الخاصة.
ومع تدهور سعر صرف الليرة، بارتفاع سعر الدولار من 1500 ليرة إلى 3300 ليرة، تراجعت قيمة ديون الدولة بالليرة من 60 مليار دولار إلى 18.2 ملياردولار، أي بفارق 41.8 مليار دولار، خسرها أصحاب المصارف والمودعون، وربحتها الدولة، وهو تطبيق طبيعي لـ«الهيركات». ويبدو أن الحكومة لن تكتفي بهذه الأرباح، بل تتطلع إلى تطبيق «الهيركات» بقرار حكومي على 2% من أصحاب الودائع (كما أعلن الرئيس دياب)، وهم يمثلون كبار المودعين الذين سيدفعون ثمن خسائر الدولة، بمصادرة 54% من ودائعهم بالليرة، أو 67% إذا ما انحصرت بودائع الدولار. والأخطر من ذلك أن بعض رجال القانون وصف هذا الاقتطاع بأنه «سرقة» موصوفة لا مثيل لها في العالم، وستكون لها ارتدادات سلبية قد تنهي النظام المصرفي اللبناني.

*كاتب لبناني