إذا لم تكونوا قد لاحظتم بالفعل، فدعوني ألفت عنايتكم إلى أن الأحزاب السياسية الكبرى التقليدية في أنحاء العالم الصناعي تتقوض جميعاً في آن واحد، وهو أمر استثنائي إلى حد كبير. فقد انهار الحزب الجمهوري الأميركي حتى لم يتبق منه سوى اسمه، وتحول من حزب مؤيد للعولمة والتجارة الحرة إلى حزب مؤيد للحمائية ومناهض للهجرة، وذلك للتكيّف مع توجهات ترامب وقاعدته الانتخابية. وانتهت الانتخابات الإيطالية الأخيرة بسحق يسار الوسط، ليصل السلطةَ بدلاً منه ائتلاف من الشعبويين ينصب تركيزهم على قضايا التي تشمل التصدي للمهاجرين وإفشال الاتحاد الأوروبي. وتحول «حزب العمال» البريطاني من يسار الوسط إلى «حزب شبه ماركسي»، بينما دفع حزب «المحافظين» إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون خطة واضحة، وبات الآن منقسماً بشأن كيفية تطبيق ذلك الانتحار الاقتصادي الذي وعد به الناخبين! أما الديمقراطيون في الولايات المتحدة، فمنقسمون بين «بيرني ساندرز» الذي يميل للاشتراكية، وبين يسار الوسط، لكنهم متحدون معاً حتى الآن بفضل الرغبة الجامحة في هزيمة ترامب. من جانبها، استغرقت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل 4 أشهر لتشكيل ائتلاف حكومي، بعد أن تلقى حزبها ضربة موجعة في الانتخابات، وقد يتعرض ائتلافها الهش للتفكك بسبب مسألة الهجرة. ويقود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حزباً وسطياً لم يكن موجوداً قبل ثلاثة أعوام مضت. فماذا يجري؟ إجابتي باختصار: إنه تغير مناخي، إذ نمر حالياً بثلاثة تغيرات مناخية ستعيد تشكيل الأنظمة البيئية للعمل والتعليم والأوضاع الجيوسياسية والأخلاقيات والمجتمع بأساليب لم يعد يمكن للأحزاب التي بنيت على أساس الخيارات الثنائية القديمة (اليمين واليسار) استيعابها بسهولة. ولكن كيف ذلك؟ لقد تحولنا من الحالة «الآجلة» إلى «العاجلة»، وعندما نشأت في مينيسوتا، كان يمكنني تنظيف تلك البحيرة «آجلاً»، أو إنقاذ تلك الغابة أو الطائر لاحقاً، أما اليوم فقد «انتهى الآجل»، وأصبح «عاجلاً»، وكل شيء ينبغي إنقاذه أصبح لابد من إنقاذه الآن.. وهذا هو تغير المناخ. ونخوض الآن تغيراً في مناخ العولمة، فنتحوّل من عالم مترابط إلى عالم متساند، وفي ذلك العالم المستقل يمكن أن يقضي عليك أصدقاؤك أسرع من أعدائك. فإذا انهارت البنوك في اليونان أو إيطاليا، وهما عضوان في «الناتو»، فإن صندوق تقاعدك سيتأثر. وفي ذلك العالم الذي يعتمد فيه كلٌ على الآخر، يمكن أن يصبح انهيار منافسيك أشد خطراً من صعودهم. فإذا استحوذت الصين على ست جزر أخرى في بحر الصين الجنوبي مساء، فلن يؤرقك ذلك، أما إذا خسرت الصين 6? من نموها، فقد تخسر وظيفتك! وأخيراً، نخوض كذلك تغيراً في مناخ التكنولوجيا، حيث باتت الماكينات تستحوذ على كثير من المميزات الفريدة للبشر، وخصوصاً القدرة على التعلم، والتحليل والتفكير المنطقي والمناورة والعمل بصورة ذاتية. وتلك التغيرات المناخية ستعيد تشكيل النظام البيئي للعمل، وتقضي على أعداد هائلة من وظائف أصحاب المهارات المتوسطة، وسيعيد ذلك تشكيل بيئة التعلم ويجعل من مواصلة التعليم طوال العمر أساساً جديداً للتقدم. وستفرض تلك التغيرات المناخية الثلاثة إعادة تشكيل الأوضاع الجيوسياسية، فهي مثل بركان سيعصف بالدول الضعيفة التي كانت على ما يرام أثناء الحرب الباردة، عندما كانت القوى العظمى تغدق عليها بالأسلحة والمساعدات الأجنبية. لكن معظم هذه الدول الهشة تعاني حالياً التفكك، خاصة في أميركا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط جنوب أوروبا. فليس هناك نظام كاف، ولا أراضي مستدامة، ولا صناعة متطورة.. يمكنها حمل الناس على البقاء في مزارعها ومدنها الكبيرة. وهو ما يخلق الانقسامات الجيوسياسية في عالم اليوم، وعلى رأسها الانقسام بين عالم النظام وعالم الفوضى. جل هذه الأوضاع جديدة وتتسارع، لكن الأحزاب الغربية الكبرى المهيمنة على المشهد السياسي منذ الحرب العالمية الثانية، كانت تميل للالتفاف حول الخيارات التقليدية الثنائية المتأرجحة بين اليمين واليسار، مثل مصالح أصحاب رؤوس الأموال مقابل العمال، والحكومة الكبيرة وتشديد القوانين مقابل الحكومة الصغيرة وتخفيف القوانين، والنظرة القومية المنغلقة مقابل النظرة العالمية المنفتحة على التجارة الحرة والهجرة، والنمو الاقتصادي مقابل حماية البيئة. وكانت الأحزاب عموماً تميل إلى أحد الخيارات الثنائية، لكن الآن لا يمكنها استيعاب وموازنة كثير من الخيارات الجديدة التي يتوجب اتخاذها للازدهار في خضم تلك التغيرات المناخية. لذلك نرى الآن كيف تتعاون الشركات والعمال والمثقفون والمحسنون ورواد الأعمال والعُمد.. جميعاً لبناء إمكانات محلية أكثر قدرة على التكيف، واضعين جانباً الانتماءات للأحزاب التقليدية من أجل القيام بذلك. يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»