نشأتُ في مدينة مكسيكو سيتي وأتذكر بوضوح تلك الأمور التي أثرت في بأكبر درجة حين كنت طفلًا في كل مرة أزور فيها الولايات المتحدة. فالمرء يستطيع في الولايات المتحدة أن يشرب المياه مباشرة من الصنبور. ورجال الشرطة لا يطالبون بإتاوات. وهناك انتخابات تنافسية. إنها أمور لا يلقي لها المقيم في الولايات المتحدة بالاً، لكنها ملفتة لانتباه من لا يقيمون فيها. فإذا أراد المرء أن يقع حقاً في هوى الولايات المتحدة فعليه أن يجرب مغادرتها لفترة من الوقت. ثم بعد ذلك عشت في شيكاجو ولندن وبروكسل والقدس ونيويورك وهامبورج. وأفترض أن هذا يجعلني «عولميا» في عيون بعض الناس، رغم أنني لم أنظر إلى نفسي على هذا النحو قط. لكنني مقتنع تماماً بالفوائد الهائلة التي يجنيها الأميركيون العاديون من التجارة الحرة والهجرة لأصحاب المهارات وغير أصحاب المهارات على السواء وبأهمية تحالفاتنا العسكرية في الخارج. وقد التفتُ إلى هذه التفاصيل منذ أن ظهرت كلمة «عولمي» في الأنباء من جديد بفضل تصريح مثير للاهتمام لـ«مايك مولفاني» مدير مكتب الإدارة والميزانية التابع للبيت الأبيض، بعد استقالة «جاري كوهن» من منصب كبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس. وكتب «مولفاني» في تغريدة على تويتر يقول: «باعتباري محافظاً من الجناح اليميني وعضواً مؤسساً لتكتل الحرية، لم أتوقع أن يكون واحد من الزملاء الذين أعمل معهم عن كثب وأفضلهم في البيت الأبيض (عولميا). جاري كوهن من أكثر الناس الذين عملت معهم ذكاءً على الإطلاق. وإتاحة الفرصة للتعاون معه ستبقى واحدة من الأمور البارزة خلال عملي في الخدمة العامة». وأفترض أن هذا قُصد به الإطراء، تماماً كما أراد جو بايدن المدح بوصفه لباراك أوباما في عام 2007 بأنه «أول أميركي أفريقي من التيار العام واضح ولامع وطاهر». ووضع كلمة عولمي وسط علامات تنصيص توحي بالتندر وبالمزاح من نوع ما. ولذا فمن المحتمل على الأقل أنه لم يقصد بالكلمة نوعاً ما من الغمز للتحريض على معاداة السامية. ثم إن المرء في ظل هذه الإدارة لا يستطيع أن يعلم شيئاً على وجه الدقة. وربما ما حاول مولفاني قوله هو أن واحداً من أفضل أصدقائه يهودي. لكن تعليق مولفاني شديد الدلالة. فكلمة عولمي تنتمي إلى طائفة من الكلمات التي تكشف عن مكنون مستخدمها أكثر مما تكشف عن طبيعة الشخص الذي تُطلق عليه. وكون المرء عولمياً لا يعني شيئاً تقريباً. وحتى أبرز المستثمرين والمسؤولين على مستوى العالم حين يذهبون إلى دافوس فإنهم يعودون إلى ديارهم مع اقتراب المنتدى السنوي من ختامه. وبالتالي فإن ريكس تيلرسون هو عولمي مثل سامانتا باور. والشيء نفسه ينطبق على جون كيري وجون بولتون وتشارلز كوخ وجوروج سوروس ومايك بومبيو وجوليان آسانج. وضد المصطلح يشير إلى شيء محدد، لأن مصطلح «المناهض للعولمة» يشير إلى شيء بعينه، ويعني شخصاً مقتنعاً بأن أنشطة اقتصادية خطيرة يجري تنفيذها في مؤتمرات في أماكن مثل دافوس وبيلدربيرج أو ميونيخ وأن 500 شخص أو نحو ذلك يديرون العالم لصالحهم على حساب الآخرين. وهذا يعني أن الرخاء الأميركي سيتحقق بشكل أفضل بالعودة إلى عالم قانون «سموت-هاولي» لفرض التعريفات العقابية لعام 1930 والسياسات الاقتصادية القائمة على إفقار الشركاء. وتعني أيضاً الشك في أن الأميركيين الذين آفاقهم الثقافية والجغرافية أوسع من الحدود الأميركية ناقصو الوطنية. وباختصار، تعني مناهضة العولمة الأمية الاقتصادية المصحوبة بالعقلية التآمرية. وبعد أن ترك كوهن البيت الأبيض، خسر عالم ترامب آخر شخص يعلم تهافت حجج معاداة العولمة وآخر شخص كان مستعداً لأن يقول هذا مباشرة للرئيس. فمن بقي في البيت الأبيض كي يخبر الرئيس أنه ليس من الصواب محاولة الانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)؟ وربما حان الوقت كي نجعل لكلمة عولمي معنى. فقد تعلم الجيل السابق من العولميين الذين كانوا يطلقون على أنفسهم دوليين دروساً من ثلاثينيات القرن الماضي، وأدركوا أن الولايات المتحدة لا تستطيع عزل نفسها عن العالم والبقاء في أمان منه. فقد خرجت أجيال متعاقبة من الأميركيين من العسكريين ومسؤولي الشؤون الخارجية ورجال الأعمال والمعلمين ونشطاء حقوق الإنسان والفنانين إلى العالم وسعوا لأن يجعلوه أفضل. وأشارت بيانات لوزارة الخارجية في عام 2016 إلى أن نحو تسعة ملايين أميركي يعيشون في الخارج، وهو عدد أكبر ممن يعيشون في ولاية فرجينيا. وهؤلاء المغتربون هم العولميون الأميركيون الحقيقيون الذين يمثلون الأمور التي تجعل أميركا عظيمة مثل المغامرة والالتزام والتجارة والانفتاح أمام الأفكار الجديدة. بريت ستيفنس: صحفي ومعلق أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»