لا يني الحال في جنوب وادي النيل، يرسل الإشارات عن استمرار الأزمة في هذه البلاد التي اعتُبرت ممراً على مر التاريخ من الشمال للجنوب والشرق في القارة، ومن أقصى الغرب حتى عبور البحر الأحمر إلى الأراضي الحجازية...وقد أُتيح لي قدر من المعرفة بأهالي عدد من الأقاليم السودانية من كسلا للفاشر، ومن دنقلة لجوبا. بل وإني حين درَّسْت في جوبا لعدد من شباب الجنوب والشمال، رأيت كيف تنافس أو تنازع أبناء «الدينكا» و«الباريا» على قيادة الحوار السلمي أو المسلح مع الشمال، ثم رأيت انبثاق مشروع السودان الجديد على يد الزعيم السوداني «جون قرنق». وفي كل هذه المشاهد، ورغم مأزقها البين، فقد كانت كل خطوة تؤدي إلى الأخرى، بما كان واضحاً من الحقوق والواجبات، إلا عنصراً أساسياً لم يكن كذلك، وهو نية السلطة الحاكمة في التصرف إزاء الموقف التفاوضي المطروح منذ أوائل الثمانينيات، مما كلَّف البلاد الكثير، وانتهى إلى هذا التشظي الذي لا تبدو له نهاية معروفة. وقد أُتيح لي في هذه الفترة، وأنا اكتب مشاركة في تأبين صديق عزيز رحل مؤخراً هو البروفيسور «عبد الماجد على بوب»، أن أشير إلى أعماله المهمة، سواء عن أحوال الجنوب أو الشمال، وقد كان إنساناً حساساً تجاه مصير شعبه لأبعد الحدود، ليرى في كتابه «جنوب السودان، جدل الوحدة والانفصال» أو في كتابه الآخر عن «19 من يوليو، إضاءات ووثائق» واقعتين كانتا كفيلتين بوضع السودان على خريطة مختلفة من الاستقرار على الأقل. وإذ بي وأنا أكتب عن «علي بوب» أجد سيلاً من الكتب، لم أعهد مثل تدفقها عن الكتاب الشبان والعواجيز بهذا الشكل، وكلها قلق على السودان ومستقبله. لفتني منها «دولة التعاقد الاجتماعي في السودان، ليست خياراً، بل ضرورة» للأستاذ أبكر محمد أبو البشر، كما لفتني عمل ذلك الشاب «دينق ألينق» الذي كتب مؤخراً عن «السودان الجنوبي والطريق إلى المستقبل». لكن يظل بارزاً ومباشراً، كتاب «الأزمة السودانية المستدامة» للأستاذ «الفاضل عباس محمد علي»، الذي حمل تساؤلات المرحلة بما يعبر عنه طابعه من التشاؤم، ثم انتهائه إلى التفاؤل، وبما ساهم به ضمن حركات الانتفاض والتجمع السياسي، وما انتهى إليه كل ذلك من فشل انتظام قوى العمل الوطني من جهة، أو فشل فرص التفاوض من جهة أخرى. وموقف الأستاذ «الفاضل» مثل الموقف العام في السودان بين حضور قوي أحياناً لتجمعات المعارضة، فرضت اتفاقيات القاهرة، وجوبا، وغيرها، وبين الغياب والضعف والانقسامية عندما تحين الفرصة لتغيير مسار الحكم أو تعديله في السودان...وهذا الغياب السياسي المتكرر هو الذي أدى إلى تفجر الانتفاضة ممثلة في العصيان المدني أواخر 2016. لكن الأستاذ «الفاضل» مع حثه للتعبئة حول الانتفاضة، وتأكده من انتصار أهدافها، فإنه لم يعثر على نتائج محددة إلا ما سمحت به تحركات النظام السياسي مع المعارضة، منذ قال بـ«الوثبة» ثم «الحوار الوطني»، ثم «خريطة الطريق» بما يعني، وكأنه الاستجابة لنداء الحل الوطني الشامل، وللأستاذ الفاضل عباس تمهيدات في الكتاب لتأكيد عدم ثقته في المستقبل – القريب على الأقل- وتوقع «استدامة الأزمة» بسبب تاريخ الانحرافات، وعدم صدقية معظم النظم التي جاءت عقب الانقلابات حتى المهدوية الإسلامية منها، وإن بدأت بقدر من التلقائية، فإنها تنتهي بتمكين الإخوان منذ استقلال السودان. هذا الإيقاع الذي عانى منه الشعب السوداني منذ ثورة 1964 حتى انتفاضة 2016، تتسم فيه القوى السياسية للأسف بدور سلبي، بتردداتها في البرنامج السياسي (كان مع الجنوب ثم صار مع الأقاليم الأخرى) حتى تقفز قوى اليمين المنظم مثل «الإخوان» على الموقف في كل مرة، ولا تتورع هذه القوى من تحويل موقف الجيش من الحياد أو الشعبوية إلى الانحياز لقوتها وسيطرتها الذاتية، بشكل انقلابي من داخل الانقلاب نفسه. وهذا ما تخشاه القوى المدنية السياسية هذه المرة أيضاً. حيث الخشية قائمة من احتواء التحرك الشعبي والسياسي الأخير وقبول القوى بالحوار على أساس «التفاوضية» التي ينقذ بها النظام نفسه، وإذ به يظل طارحاً الاحتمال باستعمال هذا ضد ذاك...ليعود الإسلاميون بوسائل أخرى. ولم يعد النظام الأميركي مأمون الجانب، ولا تستطيع القوى المعارضة أن تثق بأن العفو الأميركي (المحكمة الدولية) أو تراضي الجبهات الثورية وقبولها دخول الحوار، يضمن كلمة ملتزمة من أجل حل ديمقراطي حقيقي، فتبقى الأزمة «مستدامة» فعلاً على حد تعبير «الفاضل عباس»، ولا يجدي أمامها أن يذهب الحكم يميناً أو شمالًا، إلى إثيوبيا أو الخليج لإنقاذ موقفه أمام القوى الكبرى في الإقليم، سواء كانت مصر أو إثيوبيا أو أوغندا أو كينيا. والكل أمامهم التعاون مع جنوب السودان، بل وقد حذرت مرة من أن القوى الكبرى الإقليمية قد تتفق بعيداً عن السودان نفسه الذي انفرطت منه، مع ضعفه الاقتصادي والشعبي، إمكانيات المقاومة الداخلية والخارجية.