جذبتني فكرة الكتابة لهذا المقال بطريقة مختلفة، رغم استمرار نفس الهدف، وهو رؤية سلوك الإعلام المحلي والدولي في علاقته بشواغل الشعب. وكانت جذبتني أولاً تجاذبات عام 2016، حول الإعلام الأميركي الذي صور للملايين الغفيرة، أن «هيلاري كلينتون» في طريقها إلى البيت الأبيض! وأن «ترامب» لا يمكن أن يكون الرئيس القادم لأكبر دولة في العالم.. وإذ بـ«الجماهير الغفيرة» تنتخب ذلك الرجل الذي لعب على مشاعرها «الغوغائية» وطبقاتها الفقيرة والعاطلة، وهو الملياردير المجهول، لأن الجماهير كانت ذات اهتمامات أخرى، ترفض المؤسسة التقليدية للاقتصاد والتعليم والإعلام على السواء. مثل ذلك شعرت به في عام 2015، أيام واقعة «كلنا شارلي»، حيث قدم الإعلام العالمي، وليس فقط المحلي، وبكثافة مفرطة.. فرنسا العلمانية البريئة، صانعة شعار «الحرية والإخاء والمساواة» وهي تتعرض لوحشية الإقصائيين، وأجج انطلاقة الهستيريا للإسلاموفوبيا، وشارك في تعبئة قادة العالم إلى جانب فرنسا، دون التقدم خطوة نحو إصلاح حال المهمشين في الضواحي المتشحين بدينهم الخاص، لتبقى العولمة الإعلامية هي الحاكمة مع استمرار صياغات الحادث وأحوال المجتمع، مع صياغة الموقف الفرنسي الخاص من الإرهاب! أثرت بي هذه الحالة وأنا أراجع مع بعض الزملاء المتخصصين أوراق أكثر من مئة وخمسين باحثاً من أنحاء أفريقيا، تقدموا بمشروعات بحوثهم عن الثقافة الشعبية الأفريقية، وهمومها المتنوعة، وذلك لمؤتمر دولي حول تفاعل الثقافات الأفريقية يعقد بالقاهرة في أبريل المقبل. وإذا بي أجد نفسي أتأمل التساؤل عما ورد في ذهن باحثين -معظمهم شبان- عن هموم شعوبهم، ومدى علاقتها بموجات الإعلام، وما الذي يرونه مثيراً لتفاعل ثقافاتهم الوطنية مع ثقافات الشعوب الأخرى؟ لم أجد بين هذا الكم من مشروعات البحث الأفريقية ما يجيب عن أي تشابه مع حالة «الإعلام العالمي» وتأثيره، على النحو الذي رأيناه في الحالات الأوروبية، بل إنهم يعرضون الوجه الآخر للقضية، أي بتجاهل الرأي العام الحقيقي (من الباحثين) لحركة الإعلام السائد عن الإرهاب، والعنف، والتحارب، ونفوذ القوى الكبرى.. وراحوا يعبرون بإخلاص عن اكتشاف هموم شعبية أخرى، آمل أن ننتبه إليها كمثقفين عرب لعلها تكون طريقنا لسلام آخر، وإن توقعها «إيمانويل تود» في: «من هو شارلي؟» (ترجمة أنور مغيث)، في سلام تحكمه سوسيولوجيا الرؤية الدينية، فإننا نأمل أن تقودنا سوسيولوجيا الثقافة الأفريقية إلى سلام آخر تحكمه عناصر عرضها الشباب الباحثون في أكثر من عشرين «رؤية» لشعوبهم لن يسعنا إلا العبور عليها، حتى نعود إليها بعد اكتمال البحوث وتقديمها للمؤتمر. بعض هذه العناوين الشاغلة للبحث الأفريقي العربي يمكن تصويرها كالآتي: إن ثمة عدداً من الثقافات الكبرى غير العربية في القارة، مثل الهوسا والسواحيلية والأمازيغية والفولانية والسوننكية والماندينجية.. كفيلة بتفاعلها بين نحو المليار نسمة، أن تخلق تأثيراً جديداً ليس بالضرورة هو ما تفرضه «دول العولمة» السائدة. إن معاناة الشباب، والمؤثرات عليه، بوسائل الإعلام المختلفة، تؤدي في معظم الدول الأفريقية إلى ربط ثقافاته الوطنية بالآخر الأفريقي، أو دعم ثوريته، أو استرداد المكون الثقافي الذي أصبح عالمياً (الهيب هوب) إلى أرضه بوسائل جديدة، أو تزايد الأعمال الأدبية والتحامها بآداب الحكي، والمسرحة، وصناعة الضحك وصناعة الفرجة. يشير الباحثون لإمكانيات توفر الثقافات الأفريقية الكبرى الممتدة، مثل السواحيلية والهوسا والفولا، من طرف أفريقي لآخر، ولا نعرف إلا بعد الدراسة كيف سيؤثر ذلك على امتداد السلبيات أيضاً، مثل تمدد تنظيم «بوكو حرام الهوساوي، والجهاد الصومالي، أو الصوفية المغاربية الأمازيغية والعربية. تكشف الأوراق عن تمدد تأثير التراث الشعبي بأنواعه على التفكير والممارسات الحديثة، مثل التأثير في فن السينما والصياغات الأدبية مع العودة بسرعة لمحاولة اكتشاف التقاليد المغلقة. تحتل المرأة دوراً بارزاً في الكتابة البحثية الأفريقية، ليس فيما يروج له إعلامياً عن القضايا النسوية، ولكن كحاملة للتراث ومنشغلة بالتربية وتقديم قيم العمل. فيما فرزته من أكثر من 150 مشروعاً بحثياً، يمكن القول إن ثمة هجمة بحثية ملحوظة من النيجيريين وأبناء شرق ووسط أفريقيا. ولا تذكر وفرة المصريين لأن المؤتمر في بلادهم، لكننا نذكر أن البحوث المصرية عن إثيوبيا قد عوضت الغياب اللافت للبحوث الإثيوبية، وضايقني أن يخضع المثقفون في أي موقع لاعتبارات غير ثقافية على هذا النحو. وقد فوجئت بوفرة البحوث من زيمبابوي، وهي المتهمة بالانكفاء على الذات ومحاصرة الحريات. دعوني أذكر في النهاية أن موضوعات عديدة يرى شباب القارة أنها شواغل قطاعات متعددة بين شعوبهم، وليس فقط الطبقة الوسطى، كما يرى «إيمانويل تود»، فهي تعكس الحس الشعبي العام ولا نسميه هنا المهمش، أو الأرضية الصالحة بسهولة لغلبة الغوغائية على نحو ما جاءنا من باريس ونيويورك.