هذه الباحثة العراقية كيف جمعت الحلاوة كلها في كتاب بالإنجليزية عنوانه كلمة واحدة "التمر" Dates؟.. و"كم في الاسم من كلام!" عنوان الفصل الأول من الكتاب، وتستقصي فيه نوال نصرالله التلافيف اللغوية والتاريخية والجغرافية والميثولوجية والبيولوجية والدينية وحتى الشعرية والفنية لنخلة التمر. كان الإغريق يسمونها "نخلة تمر فينيقيا"، وتتكون كلمة "نخلة تمر" الإغريقية من دمج كلمتي "تمر" و"دكله" التي هي "دجلة" باللغات السريانية والأكدية والسومرية والعبرية، واسم "دجلة" نفسه يعني "نهر نخلة التمر" حسب الباحثة، التي أبدعت كتاباً كصورة النخلة في أجمل المنحوتات واللوحات والزخارف وحتى المسكوكات، من أول عملة ذهبية سكّتها قرطاجة بتونس في القرن الأول قبل الميلاد، وحتى "الريال الذهبي" السعودي في القرن العشرين. ونخلة التمر بالنسبة للإنسان العربي ليست مجرد شجرة، بل هي أقرب الأشجار إليه، حسب كتاب "حياة النبات والحيوان" لكمال الدين القاهري. "فالنخلة ذات جذع منتصب، ومنها الذكر والأنثى، ولا تثمر إلاّ إذا لُقِّحت، وإذا قُطع رأسها ماتت، وإذا تعرّض قلبها لصدمة قوية هلكت، وإذا قُطع سعفها لا تستطيع تعويضه من محله، كما لا يستطيع الإنسان تعويض مفاصله. والنخلة مغشاة بالليف الشبيه بشعر الجسم في الإنسان، فهل لا تكون هذه الصفات شبيهة بصفات البشر؟". ولا يشد القلوب في زمن الاضطراب العظيم هذا أقوى من نداء الرسول "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها". ويعرض الكتاب أجمل الآيات القرآنية عن النخلة، التي تصور لحظة مقدسة في تاريخ ديانات التوحيد؛ لحظة مولد السيد المسيح عليه السلام في سورة مريم "فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً. فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً". وتصور لوحة الفنان الإيطالي رافائيل مريم العذراء تحتضن المسيح الرضيع تحت ظل نخلة، وهي واحدة من 66 صورة ملونة يحتويها الكتاب، بينها منحوتة بابلية من القرن الثامن قبل الميلاد، وفيها أم ترضع طفلها فيما تحنو نخلة على الاثنين، ومخطوطة الشاعر الإيراني نظامي، وفيها صورة العاشقين قيس وليلى في بستان نخيل، ونخلة في جدارية بالمسجد الأموي في دمشق عريضة وزاهية كريشة طاووس، ولوحة "جني التمر في بستان النخيل" رسمتها بألوان العسل والبرتقال فتاة سعودية عمرها 14 عاماً ونالت بها الجائزة السنوية لمسابقة النخيل في الظهران. وإذا كان "الفن انتفاضة ضد القدر" حسب الأديب الفرنسي أندريه مالروا فلوحة "حريّة" للرسامة والمهندسة المعمارية العراقية ميسلون فرج بصمة انتفاضة ملايين النساء في الوطن العربي. نخلات زاهية الخضرة رسمتها الفنانة على خلفية حريق أحمر ملتهب، وطير مطرز بخط أسود يزقزق في قفص يعلوه هلال، وفتاة تحلق كالأرجوحة بين نخلتين، وفي قدمها ترفل زهرة. بهجة الحرية المحلقة فوق نيران الحرب والدمار من مجموعة أعمال الفنانة عن احتلال العراق، وعنوانها "زوارق وأثقال وطيارات ورقية وأحلام محطمة". والحرية ولدت في عش على رأس نخلة تمر، بناه باللُّبان والقرفة "طائر الفينيق" أو "العنقاء" كما يسميه العرب. هذا الطائر الأسطوري الذي يُبعثُ كلما مات من رماد احتراقه بلهيب الشمس ما يزال يلهم السوريين واللبنانيين حتى اليوم. وفي فصل عنوانه "نخيل التمر المهاجر إلى العالم الغربي" تروي الباحثة قصص توطين النخيل العربي في مدن غربية عدة، بينها "إنديو" عاصمة التمور في كاليفورنيا بالولايات المتحدة. وعلى خلاف التصور الشائع حول فسائل نخيل جلبها مهاجرون أفراد استغرقت جهود توطين التمور العربية في الولايات المتحدة أكثر من قرن، ومع بداية القرن العشرين نجحت زراعة أول فسيلة نخل وكانت "دكلة نور" من الجزائر، وتبعتها فسائل "فرد" من عُمان، و"الخلاص" الحساوية من السعودية، ثم "البرحي" و"الخضراوي" و"الحلاوي" من البصرة، و"الزَهدي" من بغداد، وبعدها "السعيدي" و"حياني" من مصر، وآخر الأصناف التي سوّقها المصريون عام 2009 "تمر أوباما"! ويلهب المهرجان السنوي للتمور في "إنديو" غرائز الحب والغرام، وحمّى سباقات النوق والنعام التي تنظم خلاله. ويعيد الكتاب تثقيف الأميركيين حول علاقة الحب والغرام بين النخيل نفسها. فتكاثر النخيل بالنسيج المستخدم اليوم هو عملية استنساخ لا طعم فيها للحب. ونخلة التمر التي رعتها إلهة الحب عشتار مخلوقة للحب وبالحب، حسب شهادة المؤرخ الفيلسوف الروماني بليني في القرن الأول قبل الميلاد. "في غابة النمو الطبيعي قد ترى نخلات إناث عدة تحيط بنخل فحل واحد مسبلات الرؤوس والسعفات كما لو كنّ ينحنين باهتمام نحوه". وتنقل الباحثة أجمل قصص حب وغرام النخيل عن كتاب "عجائب المخلوقات" للقزويني. "قال كان عندنا حديقة نخل لا يكاد يُخلف، فدعونا رجلاً بصيراً بالنخل فصعدها، وقال لا أرى بها علة. وجعل ينظر يميناً وشمالاً فإذا فحل بالقرب منها فقال إنها عاشقة لذلك الفحل فلقِحوها منه ففعلنا فعادت إلى حملها"! وحق الملقح مضمون في أقدم تشريعات النخيل التي وضعها الملك البابلي المشهور حمورابي "إذا أعطى المالك بستانه للبستاني كي يلقحه فعلى البستاني أن يعطي ثلثي الغلة إلى المالك كإيجار للبستان طالما كان يزرعه ويأخذ لنفسه الثلث". ولنخيل التمر أكثر من 360 استخداماً بدءاً من جذوعه التي تستخدم في بناء قنوات مائية وسقوف وأعمدة المباني، والسعف لبناء أسرّة ومناضد وكراس، والأوراق لحياكة السجاد والمراوح اليدوية، ونوى التمر كوقود الفحم. وتعارض نوال نصر الله استخدام نخيل التمر في صناعة وقود "الميثانول"، وتدعو إلى اعتماد التمر كمادة أساسية في مكافحة نقص التغذية وكوارث المجاعات لاحتوائه نسبة عالية من السعرات الحرارية والفيتامينات، وكان للتمر الفضل في حماية البحارة العرب أثناء الرحلات الطويلة من الإصابة بالإسقربوط، الذي يصيب البحارة الغربيين بسبب نقص الفيتامينات في أغذيتهم. وتختتم 16 وصفة لطبخ التمر هذا الكتاب الذي تقول عنه صحيفة "شيكاغو تريبيون" الأميركية إنه "مذكرات عن الطعام، مُشهيّة، وغريبة، ملونة، ومتبرجة، حلوة، ودهينة، حادة وخاطفة". والعرب يعرفون معظم الطبخات، خصوصاً "كعكة التمر"، وحلوى التمر بالسمسم، وعسل التمر، وصلصة التمر المتبّلة، لكن من جرّب لحم النعام المغلي بمحلول التمر، وهي وصفة من روما قبل الميلاد، أو الدجاج المغلي بعصير التمر؟ ونسيتُ متى ذقتُ آخر مرة "عجة البيض بالتمر" واسمها "أومليت الغرام"، ويختتم الكتاب وصفتها بالنصيحة التالية "تناولها مع من تحب، وتدبَّر البقاء وحدكما في المنزل"!