منذ أسبوع ونيف وقف مذيع على قناة تلفزيونية بيروتية، يعلن للشباب والشابات في العالم العربي، أن افتتاح أحد برامج ما يسمى "تلفزيون الواقع" لهذه الدورة، قد اقترب، وعليهم أن يأخذوا ذلك بعين اعتبارهم لاستقباله ولمشاركة من يرغب منهم ومنهن في أحداثه ونشاطاته. وكما يُراد لهذا الموسم من البرنامج المذكور أن يكون حاضراً في ذاكرة أولئك، فقد جرى توديع الموسم السابق بحفاوة بالغة على القناة التلفزيونية نفسها، حين أعلنت المذيعة المؤهَّلة لذلك، نتائجه النهائية لاشتراك ثلاثة متسابقين: الآن، كل العرب يضعون أيديهم على قلوبهم، ويعيشون لحظات تاريخية! إن القيام بفحص هذه المناسبة من مجموع مناسبات أخرى مماثلة في المشهد الثقافي الفني العربي (وقد قمنا وآخرين بمثل هذا الفحص)، يقدم مادة ذات أهمية خاصة في إطار الحوار الدائر راهناً حول الثقافة العربية وآفاقها المحتملة. فمن نتائج الفحص الذي جرى إنجازه أن اللغة العربية المستخدمة في تلك المناسبة يجري ضخّها بسلسلة مفتوحة من الكلمات والجمل الأجنبية (إنجليزية وفرنسية)، وذلك بحيث يمكن التخمين بأن اللغة المذكورة صار لها ضُرّتان اثنتان تشاركانها حياتها ليل نهار، دون توقف، كما كان الرئيس الجزائري بومدين يتحدث عن العربية والفرنسية. فمن شاكلة برامج "تلفزيون الواقع" يوجد الكثير في الفضائيات، ومن ثم، قد يكون أصبح وارداً أن استخدام كلمات وجمل بلغة أجنبية في قلب اللغة العربية لم يعد يقتصر على نخبة من المتفرنِجين، بل يمتد شيئاً فشيئاً إلى جموع الناس العاديين، مستمعين ومشاهدين، ناهيك عما يجري في كثير من المواقع في المجتمعات العربية ضمن تيار عولمة اللغات في العالم، باختيار "لغة أمٍ" لها، على الأقل. وهكذا تحدث نقلة جديدة في لغة الثقافة العربية تصبح -مع الممارسة وتقاعس المرجعيات العربية- حالة جديدة في الذاتية الثقافية العربية. وإذا قال البعض بالمثل الشهير، رداً على ما نعلنه هنا، وهو: الطَّبع غلب التطبُّع، فإن حالة من الهجنة الملفّقة تصبح هي الأقرب إلى التحقق. ومع العبث باللغة الوطنية-القومية، تنشأ أنماط من البث الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والعاطفي، لأن اللغة ليست مجموعة متراصّة من القواعد والجمل والمفردات... إلخ، وإنما هي إذ تكتسب كيانها الوطني القومي في منظومة من العلاقات والإشارات والرموز والدلالات، التي لها مساس بحياة الناس، تظهر في الحقول الكبرى التي تتجلى في أنماط الثقافة، وهي الثقافة المادية، والأخرى الفكرية الروحية، والثالثة السياسية، والرابعة العامة. وإذا أخذنا بالاعتبار "المنظومات الرئيسية" التي تكوّن الثقافة تحت تأثير الأنماط الثقافية الثلاثة الأخيرة المذكورة، فإننا نضع يدنا -وفق فقه اللغة- على تلك المنظومات، التي هي: التفكير وطاقة التمثُّل، والمعايير والضوابط، والتعبير، والرؤية والرؤيا، والسلوك. والآن، إذا تفكّرنا في ذلك تحت ضوء ما قد يتحول إلى انقلاب في خصوصية اللغة العربية، فإننا نكون أمام ما يسعى إليه بعض المثقفين والكتّاب العرب، وهو الدعوة إلى الخروج عن اللغة العربية، أخيراً، والخلاص عنها ببديل آخر، على الأقل على مستوى الكتابة العلمية. ولا يُخفي بعض أولئك أن هذا السعي يأتي بسبب الاعتقاد بأن اللغة المذكورة تحمل من السمات والخصائص ما يحول بينها وبين الحراك التاريخي اللغوي، وخصوصاً ما يُدعى "محسوسيّتها" أولاً، و"لا تاريخيتها" ثانياً، أي بمثابتها حالة ثابتة ومغلقة. وإذا كانت قد نشأت محاولات لإقصاء اللغة العربية عبر استبدال أحرفها بأحرف لاتينية لـ"تسهيل دخول العرب في عصر الحداثة"، كما طالب بذلك سلامة موسى من مصر وآخرون من لبنان، فإن الدعوة الجديدة الخفية الآن تأتي باسم كون اللغة إياها عاجزة، بالأساس وبالاعتبار التأسيس (الإبيستيمولوجي) عن عملية التسهيل تلك. أما أسباب ذلك فتأتي من أن بنيتها الذاتية تحمل ذينك الطابعين الاثنين، أي محسوسيتها (عدم قدرتها على الارتفاع إلى مستوى التجريد العلمي)، ولاتاريخيتها (عجزها عن التطور). وهذا ما يجري الآن تسويقه عبر فكرة "التنميط الثقافي اللغوي" العولمي. إن برامج "تلفزيون الواقع" إنما هي صنيعٌ يُراد له أن يقود إلى ما بعده!