دعوا ذاك الشقي·· المسافر·· في غيّه وبقايا وقته وإثمه، فاليوم·· يتوحد بهمه الطاغي وحريق عمره، كانت غايته·· ظل شجرة تتعرق بالندى، تلم خطواته المتعثرة، وأحلام المدى، يرقد تحت نخلته متوسداً عافيته، وما يرجعه صوت الصدى، أو يضمه كرسي في حديقة خريفية يجري من تحته ورق تسحبه ريح السُدى، يستدعي متى شاء سِنة من النوم أو هدمة الكرى· كان يعرف كيف يجعل من صبحه خرزة زرقاء في عيون المهرولين، الساعين بضجيجهم، وضجرهم، وكِبرهم، وخسائر السنين· كان يعرف حين يباغت المطر مدينته، كيف يحتفي بالطين، ويعرف كيف يغدو كطائر يزاغيه الشوق ودقات الفرح والحنين· كان يعرف أن تزحف سنة جديدة على الأكتاف ولا يلين، تثقل أيامه التي تنازعتها المدن والنساء والسفر والقدم اليمين· كان يعرف نبل سير الخطوات في دروب العناء، ونبل أن يعضّد صديقاً أو غريباً أو يسكن في دمع عين حزين· كان يصنع من كلماته الخارجة من الصدر مراكب للعاثرين، كان يعرف اللوم ومتى يصدّق الآخرين، غير أنها روح الطفل التي لا تفارقه، ضحكته التي تستلبسه وترافقه، ذاهبة به هناك·· حيث يشتهي في العالم، وهنا·· حيث العشق في الوطن والناس الطيبين· كان يعرف الصمت في زمن التيه وهزائم العصر، كان يعرف الصبر والخُسر، وما لا يجبر الكسر، غير أنها وصايا الرجل الغائب حول العنق، ونقشاً في الصدر، ذاك الذي قال له مرة: اذهب·· ثم إياك·· إياك·· فدتك الأماني، والأغاني، وما تبقى من حرف، وقلم وبيان سحر، كان يعرف ثمن بياض الثوب والكف، وفروسية العمر، كان يعرف الخير وما ترتجيه الفضيلة من مهر، غير أنها دعوات المرأة الصابرة·· القابضة على الجمر، تلك التي تفعل ضحكتها الرطبة فيه·· يفديها بالذي يقدر ولا يقدر، لتبقى تاجاً من الجميل وغاراً من الظَفَر· في صباحه اليوم·· في صبيحة يومه هذا·· لا ينشد غير الصفاء، وميزة كانت لصيقة بالأصدقاء، ولا يحلم إلا أن يظل يتعكز على خطوات الصبي ذاك، تسبقه الفرحة والبسملة، لا يريد إلا أن تبقى الحياة مثل شذى زنبقة، أو كطلع السنبلة· أيها النبلاء في الدنيا·· صباحكم كله عطر، وحب، وورد أكثر·· أيها النبلاء·· تلك كانت غنائية ذاك الصبي الذي لا يحب أن يكبر··