في جلسة حوارية ملحها الحميمية أحسست بأنني أستعيد طفولتي وأقعد على كرسي الدرس أمام أساتذة سكبوا على القلب زخات من ضروع سحابات سخية، شعرت أنني أستدعي الزمان وأجلسه أمامي لأحكي له قصة الفتي الذي غادر مقلة معيريض ليسكن مهجة المدينة (المنورة) هنا في قلب الزجاجات السامقة الداخلة في أحشاء السماء كأنها حلم الطفولة.
في الحوار عزفت الكلمات لحن الخلود وأيقظت في النفس عوالم أشهى من فضاءات الرواية نفسها التي جئنا لنصرّح عن فصولها وأصولها وفواصلها ونواصيها ونصوصها، يتوسطنا جميعاً جهد سعادة هدى إبراهيم الخميس مؤسس مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، وإلى جانب هذا الجهد الكبير انتصب عمود الشعر والفكر بحضور نخبة من المبدعين والأدباء والكتاب، وقد أضاءت المكان ثلة من عشاق الكلمة، في مقدمتهم أخي ابن جلفار الحنون الشاعر عبدالله السبب، والعزيز سامح كعوش مايسترو الكلمة الرائقة، والدكتور يوسف حطيني، والإعلامية فاتن حمودي.
والحب توسط عالمنا، وعندما يحضر الحب تصبح الكلمات فراشات من مخمل المشاعر الدافئة، والعيون تضاء بمصابيح الود، والحياة تصير في اللحظة ذاتها قماشة تحيط قلوبنا، تمنحنا التمرد على كل ما هو غير الحب، تحرضنا على الإمساك بمعجم التاريخ العفوي، تدفعنا كموجات باتجاه سواحل الذاكرة، ذاكرة الزمان الجميل يوم كانت الأفنية تفتح نوافذها على المدى والأبواب مشرعة كي يدخل الهواء بصحبة صاحبات الحكايات المرهفة وأخوات القهوة الصباحية وتمرة العذوبة والبوح الودود.
الله، كانت الجلسة الحوارية النقدية أجمل من وشوشة الموجة، وأعذب من موال البحر، وأعمق من لجة المحيط، وأنبل من وثبة الجياد الأصيلة، وأكثر نجابة من جلجلة النوق الحالمة بغافة ظليلة.
كانت جلسة في حضرة النخبة والنخب وأشياء في تفاصيل البوح، أثارت في النفس لواعج، وحركت في القلب شياطين العفوية كم خبأتها، وكم تواريت خلف عباءتها، وكم حفظتها من الرتوش والخدوش، وكم منعتها من التحليق خوفاً من البلل، وكم رفعتها فوق منامة الليل كي لا تلمسها دابة الأرض، وكم دافعت عنها كي لا يصيبها سم الأفاعي، وكم أحجمت عن التصريح عنها كي لا تقلقها نسمة الهواء في معيريض، وكم أحببت أن تكون في منأى عن الضجيج والعجيج، وكم أخفيت قلبي بين الضلوع وهو الصندوق الذي حفظت فيه أول نظرة وأول ابتسامة فتحت أمامي صفحة كتاب التاريخ، وأرخت لعمري فتوحات من دون رمح ولا سيف، كانت في مجمل القول وثبات على صهوة مشاعر خرجت من بين حبات التراب كي تلون وجه الحياة كي تمنحني الأسبقية في الحب والأولوية في العذابات اللذيذة.
في جلسة معرض الكتاب شعرت بوجود الصديق محمد نور الدين كأنه المظلة تهفهف على تلك الكلمات التي تحركت بين دفات الكتاب كأنها سنابل عشب قشيب تحرك أسنتها في فضاء رحيب وجداول تفري الروح نشوة واحتساباً لغد يبدو لي أنه في حضرة هذه الكوكبة من عناصر البهجة في حراكنا الثقافي في معية الشعر والشاعر وفي صحبة البحث والباحث وفي رفقة الراوي والرواية.
بوجود شخصيات لها مكانتها ورونقها أمثال هدى الخميس تتجلى الثقافة وتنتشي الكلمات، ونشعر في حينها أن السماء تبشر بمزيد من خيرات الغيمة وكثير من فضيلة الحب، وهو ترياق نهضتنا وإكسير نضوج مسيرتنا الثقافية، وسر حضورنا وسبر منارتنا في هذا الصرح الجميل.
فشكراً مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، والشكر موصول لكل من يعنى بالثقافة وكل من يضع لمسته الحنون على الكلمة، فهي نبراس تطورنا وهي وعاء هويتها، وهي نبع حضورنا في هذا العالم الشاسع الواسع.