ثمَّة صورة نمطيَّة لقطاع الإنشاءات تَفترِض أنه أحد القطاعات الأكثر استنزافاً للموارد الطبيعية، إذ يستخدمها القطاع موادَّ أولية في عمليات التصنيع، ومنها مواد البناء التقليدية، مثل الأسمنت والحديد التي تُصدِر الكثير من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في أثناء دورة حياة مشروعات الإنشاء. ومما يثير الاهتمام في هذا الشأن، أن قطاع الإنشاءات قد يكون من أهم القطاعات التي ستوفر حلولاً محورية لموضوع الاستدامة في البنية التحتية، وهنا تكمن المفارقة بتحويل القطاع المُسبِّب للمشكلة حلّاً حيويّاً في مسألة الاستدامة.

ومن أهم الحلول المبتكرة حديثاً تطبيق مبدأ «الاقتصاد الدائري» في قطاع الإنشاءات، وهو اقتصاد يُعرَّف بأنه لا يحتوي على مخلفات خلال دورة حياته، على نقيض «الاقتصاد الخطي» الكلاسيكي، ولذلك تُعدُّ مرحلة اختيار المواد الخام نقطة مهمة جدّاً في تطبيق مبدأ الاقتصاد الدائري بقطاع الإنشاءات، إذ ينبغي الحرص على اختيار مواد ذات بصمة كربونية منخفضة، سواء في مرحلة التصنيع أو التشغيل، مثل الأسمنت البديل والألياف العضوية.

والبُعد الآخر المهم في تطبيق مبدأ الاقتصاد الدائري هو ديمومة مواد البناء الأولية، ولا سيَّما في منطقتنا التي تتَّسم بأجواء بيئية صعبة، من حيث ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة، وهنا ينبغي لمهندسي كلٍّ من التصميم والمواد العمل معاً عند اختيار المواد المناسبة لطبيعة التصميم في بيئة الموقع الإنشائي.

وفي حين أن الحلول التقنية لتطبيق الاقتصاد الدائري في قطاع الإنشاءات متوافرة، فإنه لا بدَّ من وجود محفِّز تشريعي لها ضمن حوكمة اقتصادية مشجعَّة، إذ إن قطاع الإنشاءات على مرِّ التاريخ ذو طبيعة بطيئة وتقليدية، بسبب عدد الجهات المختلفة التي تندرج تحته، من مقاولين ومورِّدين وغيرهم، ولذلك، فإن وجود محفِّزات تشريعية في هذا القطاع تشمل الجهات الحكومية والخاصة، سيُوحِّد جهود جميع أصحاب المصلحة في سبيل تطبيق مبدأ الاقتصاد الدائري، وتعزيز مفهوم الاستدامة.

وقد يكون «التمويل الدائري الأخضر» مثالاً على المحفِّزات التشريعية للعاملين في قطاع الإنشاءات، فمثلاً يستطيع المطوِّرون العقاريون وشركات المقاولات الحصول على مزايا تمويلية إذا اشتملت مشروعاتهم الإنشائية على خاصية الاقتصاد الدائري المستدام، ومن ثَمَّ نستطيع تطبيق الحلول التقنية التي ذُكرت سابقاً، بل نستطيع ابتكار غيرها ضمن منظومة تشريعية مرنة تدعم الاقتصاد الدائري في قطاع الإنشاءات من أجل تحقيق استدامة أفضل.