تحفزنا رواية الكاتبة ميسلون هادي (حفيد البي بي سي) على رصد اتجاهات السرد العراقي في المرحلة الراهنة، وملاحظة الرغبة الشديدة في العودة لتاريخ العراق القريب وزمن تأسيس الدولة وما رافقها من تغيرات، وما كان يسود الحياة من تقاليد ومأثورات فقدتْها الأجيال التالية، وأضاعتها في شبكة الانقلابات والحروب والتبدلات الاجتماعية المتفرعة عن ذلك. حفيد البي بي سي تلاعب انزياحي مقصود يمر سريعا في حوار بين شخصيتين في الرواية، فحين تسمع منار عبارة (بي بي تي) التي يقولها عبدالحليم- وتعني جدّتي بالعامية العراقية - يتهيأ لها أنه قال (بي بي سي)! وهو تلميح لمصدر الأخبار الذي تدمن سماعه الجدة شهرزاد، وهي تهيمن على السرد في الفصول القصيرة الأولى، وتتم وجهة النظر من خلال وعيها المقترن بالمحيط عبر ما تسمعه من تلك الإذاعة الشهيرة في زمن استيراد المذياع. لكن السخرية التي حولت العبارة تهدف إلى نقد عميق للوعي السائد لدى الجيل الذي شهد تحولات العراق الأخيرة،وأسهم في مظاهرها كلها: السجون والرقابة (يشتغل عبد الحليم رقيبا على المطبوعات) والحصار والحروب والاحتلال والهجرة الجماعية. وتلك عناصر يتكون عبرها الحدث السردي، وتنمو الحبكات وتتحدد مصائر الشخصيات القليلة في الرواية. شهرزاد الجدة تتولى مهنة سمِيّتها الساردة الأولى في ألف ليلة وليلة. لكنها غير راضية عما يحدث. وتعلق بسخرية نادرة، هي سمة تطغى على مجمل السرد الذي تتولاه خارجيا الساردة - الكاتبة، وتعلل ميسلون هادي السخرية في واحدة من عتبات روايتها في المقتبس من تقديم ابن المقفع لكتاب (كليلة ودمنة) (ليكون ظاهره لهواً للخواص والعوام، وباطنه رياضة للعقول الخاصة) وتحديده لمستويات قراءة متنها الخرافي والحكايات التي تتم على ألسنة الحيوانات والطيور، وكلامها وتصرفها كالبشر، وما أراده من تحصيل اللهو للصغار والعوام الذين يستمتعون بغرائب حكاياته، وما يستفيده الخواص والدارسون من معان عميقة ودلالات تخبئها الحكايات، وبهذا تفصح الكاتبة عن استراتيجية التندّر والسخرية واستخدام المفردات والعبارات والتسميات العامية، واسترجاع عادات وأمثولات ونوادر تنجح في توصيلها طبيعة الشخصيات والعلاقة بينهم، وكذلك الحال المبكي الذي يجري عرضه بسخرية دامعة، وينتهي بهجرة الشخصيتين المهمتين في الرواية عبد الحليم وبدر، وانتهائهما بمصير واحد في المهجر رغم ما بينهما من مناكفات وجدل حول السياسة والفكر، لكن المرأة منار تكون الضحية التي يهاجر زميلاها في العمل، وتبقى هي لترينا ما حصل من نهب للخزائن الآثارية في المتحف العراقي، واحتراق المكتبة الوطنية، وسرقة وثائق ومخطوطات بالغة الأهمية عن تاريخ العراق، ومراسلات حكامه منذ تأسيس الدولة. والرواية شأن أعمال ما بعد الحداثة تستعين بالوثائق والسرد التاريخي، وتعطي الشخصيات حرية عيش تناقضاتهم والإعلان عن أحلامهم المختفية وراء شخصياتهم الخارجية. وبذلك تحقق لعمل ميسلون هادي ميزته الثقافية وامتلاؤه عبر ثقافة شخصياته، وتوثيق الأحداث والأمكنة، وهو ما يمنح القارئ إحساسا بالمتعة بظاهر المفارقات والأفعال، وألم الخسائر التي يرصدها العمل، ويستلّها من متوالية العناء العراقي المقيم.