تمر هذه الأيام ذكرى محمود درويش، الشاعر الفلسطيني المعروف الذي أفخر بصداقتي له، وأعتز بعلاقتي به، فلم يكن محمود درويش شاعراً عظيماً فحسب، وإنما كان إنساناً عظيماً بالقدر نفسه، وقد بدأت علاقتي به في السبعينيات؛ حيث قدمني إليه أمل دنقل الذي كان يعرفه قبلي، ومنذ أن عرفته في القاهرة اعتدت أن أراه كثيراً في صحبة أمل، ولا أستطيع أن أنسى حزنه العميق على وفاة أمل ورثائه له في قصيدة بديعة، فاجأنا بها عندما دعوناه إلى القاهرة لحضور مؤتمر أمل دنقل في الذكري العشرين لرحيله. اتصلت به لأدعوه، فأخبرني أنه على استعداد أن يأتي على حسابه الخاص من أجل أمل دنقل، وأنه كان سيكون غاضباً لو لم يحضر، وكنت وقتها أشرف على المجلس الأعلى للثقافة، وتعد هذه القصيدة تحديداً من أجمل قصائده، فهي قصيدة لا يكتبها إلا من يعرف أمل، ومن يدرك معنى الموت في الحياة، والحياة في الموت. ولا أنسى أن أمل كان يقرأ لي دائما القصائد التي كان يحبها لدرويش. ومن الجدير بالذكر أن هذه القصيدة لم تكن أول معرفة لي به، فأنا أتابع شعره منذ اللحظة الأولى التي استمعنا فيها إلى أشعاره وتناقلناها بيننا، بعد أن قدمه لنا المرحوم رجاء النقاش، تقديماً قوياً لفت الأنظار إليه. ولكن شهرة محمود درويش لا ترجع إلى حسن رأي النقاد والشعراء فيه، وإنما ترجع إلى معجزته الإبداعية التي حققها شعره، وأنا أعتقد أن هذه المعجزة تبدأ من كونه شاعر المقاومة الفلسطينية. بدأ محمود درويش قصائد المقاومة شأنه شأن سميح القاسم وغيره من شعراء المقاومة الفلسطينية الذين تغنينا بأشعارهم وحفظناها عن ظهر قلب، ولكن درويش كان أكثرهم اهتماماً بتكوينه الشعري وتثقيف نفسه، وهو الأمر الذي أدى إلى تعميق رؤيته، ولذلك عندما نتناول شعره نجده يكتشف العام من خلال الخاص، ويغوص في الجذور الإنسانية عميقاً، فيتحول من شعر مقاومة لفئة محدودة من المظلومين إلى شعر مقاومة لكل المظلومين في العالم كله، ولذلك فإن شعره يحمل احتجاجاً ضد القهر الواقع على الإنسان في كل زمان ومكان. كما أنه بوصفه شاعراً كان يواجه الشر في كل أحواله، ولهذا اعتبره العرب شاعرهم في المقاومة ووضعوه في صدارة المقاومة، كما أنه في الوقت ذاته كان يكتب عن المقاومة الإنسانية التي تجسدها على نحو خاص المقاومة الفلسطينية بوصفها بعض الحضور الإنساني المقاوم لكل قوى الشر، ومن هنا فهو يقدر لكونه شاعراً للمقاومة الفلسطينية وللمقاومة الإنسانية، ولمقاومة كل الفساد والقمع الموجود في العالم.