التراث ليس فناً نحتفظ به فحسب، بل هو هوية وهوى، وهو الهواء تتنفسه أرواح أحبت تاريخها وعشقت عشبة تراب سارت عليه أقدام ورسمت بأناملها بين حبات رمله.
يقول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران: «لا يمكن للتقدم أن يحدث إلا من خلال إثراء الأصل وليس نسيانه، ولكي نتقدم علينا العودة إلى الأصل، وللحفاظ على المكتسب ينبغي تجديده باستمرار من أجل الفرد والمجتمع والآخر».
هكذا يرى العالم التراث، وهكذا يؤمن كل ذي عقل وبصيرة بأنه لا يمكن للجديد أن يرتقي إلا من خلال الاهتمام بالقديم لأنه الأصل، ولأنه الأساس، ولأنه يحمل في طياته آثار بشر كدوا واجتهدوا لأجل أن نصل نحن، ومن يلغي مثل هذه الفكرة من ذاكرته، فكأنه يمسح جزءاً مهماً من الوجود، ومن يفعل ذلك فإنه يسيء إلى الإنسانية جمعاء، فالتاريخ تراكم تجارب، والتاريخ مجمع خبرات تآلفت وتكاتفت وتضامنت حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة الإنسان.
وفي الإمارات، تتجه القيادة الرشيدة إلى الاهتمام البالغ بالتراث وتقدير كل من يعملون على إحيائه.
تقديم الجوائز الثمينة للذين يحققون نجاحات في ميدان التراث، وحديث صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، لفريق هجن الرئاسة، إنما هي الرسالة الواضحة والصريحة والمليئة بمعاني الاعتزاز بهذا المخزون التاريخي الذي تزخر به الإمارات وتمتلئ به جعبتها، فالتراث في ذاكرة أبناء الإمارات هو الكتاب المفتوح، هو القاموس المشروح، منه ينهل الجيل بعد الجيل وتتناقله الأجيال على مر العصور والأزمان، لأنه يعبر عن علاقتنا بالأصل، وكيف هو ذلك النسق التاريخي الذي يسكن روح الإنسان ويتملك في خلده، ويرسم صورته الاستثنائية بين العالمين، ويرسخ شخصيته في المحافل الدولية.
فلا يمكن لنا أن ننطلق إلى المستقبل من دون دفتر ذاكرة يضم في طياته أثر الطيبين ومآثرهم الحميدة، والتي تجعلنا نشعر بأننا نخرج إلى العالم وأيدينا ملأى بعرق ذلك الموروث الثري والغني بمعاني العطاء والنبوغ وبلاغة المسعى وحصافة المعنى.

تراثنا وجهنا المضيء، وتراثنا صورتنا المتجلية في مرايا التاريخ، وهي الصورة المعلقة على مشجب وجداننا، والحب هو ذلك الناموس الذي يجعلنا نتمسك بالتراث ونثريه بإبداعات لا حدود لها ولا زمان محدداً، بل هي كل الأزمان وكل المكان وكل الإنسان، إنسان الإمارات العاشق لصوت التاريخ، وهو يشدو باسم التراث والقيثارة، هو هذا القلب المدنف حباً بما جادت به أيدي العشاق الذين سبقوا، الذين قضوا نحبهم وظلت ذكراهم محفورة على لوح محفوظ اسمه التراث الإماراتي الأصيل.
وأمنيتي أن تتكرم وزارة التربية والتعليم بأن تخصص مساحة وافية وكافية للتراث في المنهج لكي تزخر الحصص المدرسية بهذا النبع الوطني المهم في حياتنا، والمحوري في بناء وجداننا، والأساسي لأي نهضة حضارية، وفي توعية الأبناء بما هو تراث وكل ما هو بنى تحتية رسخها الآباء والأجداد.