تلك اللحظة، عندما تخطفنا صورة ما أو كلمة أو مشهد في الواقع أو في الخيال. تلك اللحظة التي لا نعود نشعر فيها بشيء ونكون مخطوفين داخلها بكل جوارحنا، هي فقط اللحظة التي تستحق ان نعيش لها وان نرهن وجودنا للذوبان في زمنها. ذلك لأنها تنقلنا الى البعد النهائي أو الجانب الحقيقي من لذة الوجود عندما نشعر فجأة بزوال الفوارق الوهمية بيننا وبين أشياء الكون وموجوداته ومخلوقاته ونرى في حالة من اليقظة التامة الترابط الخفي بين كل الأشياء ونستطيع أن نفهم العلاقة بين انعكاس ضوء الشمس على ساحل مهجور وبين حياة رجل يمشي وحيدا منحني الظهر في غربة أيامه الأخيرة. وهذا الترابط او الربط بين المعاني والكلمات والصور والمشاعر لا يتكشف إلا في تلك اللحظة التي تتسع فيها عين الوعي وكأنها ترى حركة الوجود كله. والبشر يرتحلون في الزمن حتى وهم جالسون في المكان نفسه، وتتغير أفكارهم في اللحظة وفي أجزاء الثانية فتشدهم أحيانا الى الماضي إلى درجة أن الآلاف يصبحون أسرى للذكريات ولا تعود لديهم الرغبة لرؤية أو قبول ما يحدث أمامهم وبالأخص مع تقدم العمر حيث يصبح الماضي ملاذا وموطنا نلجأ اليه عندما يكون واقعنا اليومي تافها وخاليا من المعنى. لكن هذا مجرد وهم، لأن المعاني لا تموت وهي ليست حكرا على زمن دون غيره وإنما الذي يموت هو نظرتنا ويقظتنا ولحظة الانخطاف التي نظل نبحث عنها في يومياتنا ونراها تتبخر وتزول وبعدها لا يعود لأي شيء معنى. الأغاني الجديدة تصبح جافة ومصدرا للصداع والكتب المكدسة على الرفوف لا تعود تنبض ونحن نقلب صفحاتها على مضض وقصائد الشعراء تصير مجرد طلاسم وكلمات فارغة وبالتدريج لا نعود نرى أو نسمع أو نعيش سوى خيالات الماضي أو أحلام المستقبل، وفي هذه الغفلة الكاملة تتسرب من بين أيدينا اللحظة الحقيقية التي يجب أن نعيشها الآن. لا يوجد زمن تافه وآخر ثري. والإنسان الذي يقدّر معنى وجوده هو الذي يخطف في كل لحظة وكل ثانية زمنه الآني ويعيشه بالكامل غير مكترث بما صار أو سيصير. وهو في كل لحظة يبني من خبرة ماضيه ما سوف يكونه غدا، والرابط ما بين الاثنين هو اللحظة الراهنة. نحن بحاجة إلى فن التعرف على تفاصيل وزوايا وخفايا ما نراه الآن، لا يكفي أن نرصد ما حولنا بالحواس الخمس ولا بالعقل أيضا وإنما يجب أن تضاف اليهم المشاعر والأحاسيس والرؤى التي تتولد كلما استغرقنا في تأمل ما نشعر به. نحتاج أن نجعل قلوبنا ترصد الجماليات المهملة في حراكنا اليومي وان نتوقف عندها لكي نترك للجمال أن يخطفنا للحظات نتغذى فيها على ضوء المعاني ونتذوق انفلاجة الوعي على رؤية الأبعاد كلها وكأن عين الروح تفتحت في قلب الفوضى وصارت ترى الانسجام بين كل هذه الأضداد. akhozam@yahoo.com