خلال الأسبوع المنصرم تطرقت عارضاً إلى الكاتب السوري المصري الفرنسي «ألبير قصيري» عند الحديث عن روايته «شحاذون ونُبلاء» التي تحولت لفيلم سينمائي جميل، وعن طقوسه الباريسية الصارمة تجاه الجهد والكد والعمل المضني، متبنياً فلسفة الكسل الممتع الذي كان ينادي به، ويدافع عنه، لذا مقابل ذلك فشل زواجه من الممثلة المسرحية الفرنسية، وقال: «ليس أجمل من الحياة الفردية»! كان يكره التملك، لذا سكن الغرفة الفندقية نفسها طوال حياته الباريسية التي امتدّت «63» عاماً، الغرفة رقم 58 في فندق «لا لويزيان» في حي «سان جيرمان دو بريه»، ولم يغير الغرفة ولا الفندق من فرط كسله، حتى أنه رفض تسلم العديد من الجوائز الأدبية؛ لأن موعد التكريم كان في العاشرة صباحاً، كان يقول: «إنه لأمر شاق أن تنهض مبكراً، لترى كثيراً من الوجوه المتعبة التي رأيتها من قبل»!
كان مخلصاً للأماكن، لذا بقي يتردد على مقهى «كافيه دو فلور» الباريسي العتيق مع أصدقائه «سيمون دو بوفوار، وسارتر، وألبير كامو، ولورانس داريل، وهنرى ميللر، وكثير من الفنانين والكتّاب، أما سر تمسكه بالكسل الممتع والمنتج طوال حياته، فيرجعه أنه طوال حياة عائلته من قبل جده وأعمامه وأبوه كانوا مُلاكّاً وإقطاعيين، ولم يرَ واحداً منهم امتهن حرفة أو عمل بكد في حياته، فعاش على مداخيل رواياته وكتاباته، واللوحات التي أهداه إياها كبار الفنانين وباعها من أجل حياة الكسل، وعدم ترك أثر في غرفة فندقية بحجم جسده الضئيل.
ويرى الفيلسوف الإنجليزي «برتراند راسل» في كتابه «في مدح الكسل» الصادر 1935، أن هناك فرقاً بين العاطل المجبر على الكسل بسبب ضغوط الحياة، وقلة الفرص فيها، وبين الخامل الهامل بنفسه، والذي يستشعر لذة الكسل، لأن الحياة بكثرة أشغالها تحرمه من الراحة والتأمل وتجعله أشبه بـ «ثور الساقية»، الذي تزيد ساعات عمله عما ينبغي إنجازه في وقت أقل، وبمجهود أقل، وفترة راحة أكثر، وهي من معضلات الحياة المدنية الحديثة، ويعتقد أن الطريق لسعادة الإنسان تبدأ من الإقلال من ساعات العمل، وتنظيم الوقت، وقد أورد دعابة أن هناك مصطافاً إنجليزياً رأى مجموعة من الشحاذين الكسولين تحت فيء شجرة نائمين، فاقترح أن يعطي الأقل كسلاً منهم جائزة مالية ثمينة، ففز الجميع، عدا واحداً بقي مستلقياً، فأعطاها إياه!
وهناك مسابقة عامة ومالية تقام في «مونتينيغرو» للكسالى الذين يظلون مستلقيين على ظهورهم لا يحركون ساكناً، وفي كل عام تزداد ساعات الكسل والاستلقاء، حتى وصلت إلى أكثر من شهر، وأكد الجميع أن الكسل أحياناً يكون متعباً، ومرضاً، لا يقوى عليه الكثير ولا يتحمله إلا الصابرون، بدليل أن الكثير من علماء النفس والأطباء لم يقدروا على إكمال مشروع الاستلقاء الكسول، وقرروا الانسحاب، لأن ليس كل كسل يمكن أن يكون كسلاً ممتعاً، رغم كثرة عشاق فلسفة الكسل الممتع والمنتج، وخاصة بين الكتّاب والأدباء والفنانين، وهي فكرة ليست وليدة الحياة الحديثة فقط، فقد عرفها اليونانيون، والفلاسفة العرب والمسلمون، وتبعهم فلاسفة العصر الحديث.. وغداً نكمل.