أكاد أسمع عظام فدريكو جارثيا لوركا (5 يونيو 1898 ـ 19 أغسطس 1936) تطقطق في قبره. فسيرة شاعر الثوار والمتعبين تدور من محكمة إسبانية إلى أخرى بحثا عن قاض يقرّ نبش قبر الغرناطي الذي قضى إعداما برصاص أنصار الجنرال فرانكو. في بداية الحرب الأهلية الإسبانية، طارد جنود «الفالانج» (الكتائب) لوركا، وفتشوا بيته، وحققوا معه، ثم وجهوا له تهمة لا ترد: « إنه مثقف.. صنع بكتبه ما لم تصنعه المسدسات»، فأردوه برصاصات اخترقت قلبه، وكأنهم بذلك أرادوا، كما يقول بابلو نيرودا شاعر التشيللي الشهير «أن يصيبوا قلب شعبه، ولم يخطئوا الاختيار». سوف يضيع أثر جسد لوركا فوق تلال «فيثنار» المطلة على غرناطة، قبل أن يكتشف قبره الذي ضم إليه أستاذ مدرسة وإثنين من الثوار الجمهوريين. والعجيب أن لوركا كان قد تنبأ بمصيره فكتب في إحدى قصائده: «وعرفت أنني قتلت وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس/ فتحوا البراميل والخزائن/ سرقوا ثلاث جثثٍ ونزعوا أسنانها الذهبية/ ولكنهم لم يجدوني قط». وفي مطالع الحرب الأهلية اللبنانية كتب شاعر جنوبي مصيره بقصيدة، وكأنه كان يدل قاتليه على كيفية تنفيذ مهمتهم: «قتلوني أنا أنشودة حب الفقراء/ قتلوني يا عار بنادقهم». سيصبح لوركا لاحقا وبالمصير الذي لاقاه، تشي جيفارا الشعر، وذلك قبل عقدين من انتصار الثورة الكوبية، وقبل ثلاثة عقود من إعدام الثائر اللاتيني، بنفس الطريقة في قرية «لاهيجيرا» البوليفية. سيبكي شعراء كثر، من أقاصي الثورات اللاتينية إلى أعماق الحروب الآسيوية والأفريقية، لوركا ومصيره. وربما شاركهم في البكاء جلّادوه. لكن الوحيد الذي لم يبك، ولن يبكي هو لوركا نفسه. فقد اختار مصيره بحكمة الشعراء الشهداء: أن تكون قصيدته عصية على الموت، وعلى البكاء. يقول: «أغلقت شرفتي، لأني لا أريد أن أسمع البكاء إلا أن وراء الجدران الرمادية، لا يسمع شيء غير البكاء. هناك ملائكة قليلة تغني، هناك كلاب قليلة تنبح، يسقط ألف كمان في راحة يدي. لكن البكاء كلب ضخم، البكاء كمان ضخم، الدموع تكم فم الريح، ولا يسمع شيء غير البكاء». كان يمكن لفدريكو أن يبقى في نيويورك، حيث ذهب ليخوض تجربة شخصية وشعرية خرجت من جلده، لكنه كان يتبع نداء آخر، أوصله إلى قبر جماعي لا يريد الخروج منه بحكم قاض. يأتي نداء لوركا لعدم البكاء في لحظة بكاء على الشاعر العراقي الشاب خالد السعدي، الذي داهم قصيدته انفجار في بلدته، فتركها تحكي عنه: سأنام تغري جفني الأمطار وعلى دمي تتسابق الأخطار عادل علي adelk58@hotmail.com