لايوجد وقت لم يطْرَح فيه اعتقاد الإنسان المستند إلى أساس من إعلاء العقل على ما دونه من تمييزات أخرى، تستدعي النذور والخوارق درءاً وإحقاقاً لضعف الوجود المادي المحدد بفيزيائية الحال، والنظريات كثيرة، تعتمد كلها على تأمل الإنسان في طبيعة وجوده، وما يؤول بعد ذلك من نَتْحٍ لأشكال عقائدية وفكرية يقوم جُلها على محاولة ترتيب الذات البشرية كونها المُجَابِه المُفَكِّر دوناً عن الجماد والحيوان. ولم تنته غريزتا المغامرة والاكتشاف كطبيعة مادية يقوم عليها كل تشكل عيني مهما اختلفت المادة، وما أدرانا بذلك في الإنسان المُتَكَلِّم، بعدما سَنَّله إنسان اكتشاف النار الأول وما شابه ردحاً لا محيد عن معطيات إنجازاته، بحيث أصبحنا الآن في وقت بدأت تكتنفه الروحانيات أكثر مما سلف بمراحل، فأزمة ما قبل الحداثة، والحداثة، وما بعدها، وما بعد بعدها؛ أوضحت أننا عشنا ونعيش وقتاً لا يمكن إيجاد وضعية استقرار له على مبدأ ما قبل صناعي. تحول العقل الإنساني من عقل الجغرافيات المتعددة انفصالاً، إلى العقل الصناعي؛ الذي مفاده ما أصبح مُسْتَظْهَرَاً من خلال التفكير في الكُرة الأرضية ككل، بصرف النظر عن القضايا الآنية المَعِيشة، والتي ستتابع ضرورةً مسارها في سياق من الإزاحات والإبدالات المتعلقة باختلاف وعي الإنسان الحالي، حتى تنضبط قضية ما بخلق توافقات جديدة لها داخلية وخارجياً، وتنضبط قضية أخرى بانتهائها، وأخرى برضاها بالتجاور، وأخرى بكذا وأخرى بكذا، المهم أن المقصود هنا هو هذا العقل الصناعي الذي أصبح الحاكم الإجرائي للتحول القادم؛ إنشاء لطبائع علائقية تستند بالضرورة إلى أولياتها، إنما على قوة الحِراك المجتمعي الجديد للأرض كلها. ولنلاحظ مبدأ انتهاء الكرة الأرضية، والذي ذُكِرَ في كل التجارب الإنسانية المجتمعية قديماً وجديداً، وأهميته اللافتة استمراراً للحذر مما يفعله الإنسان بنفسه، ففي الأخير هناك نهاية، وهذه النهاية مُستقاة أولاً وأخيراً من حقيقة موت كل كائن ولو ضمن دورات إعادة توالدية؛ تؤدي فكرياً إلى ما ثمة أن يكون نهاية أبدية. ومن هنا دائماً تأتي فكرة الإنسان الكامل رغبةً في إصلاح شأن الحياة؛ بين المادة والمادة، المادة والروح، كأبجديتين أولتين، وكلها مسألة متعلقة بالتخفيف من عبء ظلم الطبيعة، البشر، الغريزة، الطاقة الكونية، على محدودية الإنسان. كما أن هناك رغبة مقننة لإراحة البال، تأتي ضمن خطٍ توجيهي لممارسة وجودنا في الوجود، لذلك فهناك ما دعا اليه الرسل والأنبياء والأولياء والصالحون والمفكرون الإجتماعيون والأشخاص الأصفياء وكل ذلك ممن يعكس شروطاً جيدة حَولِ الحياة القاصرة القصيرة. الإنسان الكامل هو الصيغة القديمة، كونه التصور الأمثل لمناهضة وعي قاصر بوعي كلي لا يمكن تحققه إلا رمزياً ليكون مفاداً ضابطاً لكل قصور مقصود أو غير مقصود. والآن مع العقل الصناعي بالمفهوم السابق يبدأ الإنسان العابر، الإنسان الذي لم يتبلور بعد، لكن الحاجة له لم تعد حاجتنا، إنما حاجة عِظَم الماكينة الإنسانية. amzf@live.com