يُصنع التاريخ في نهر ريو جراندي(النهر الممتد على الحدود الأميركية-المكسيكية)، إذ قام مئات الآلاف من المهاجرين بعبور النهر العام الماضي، مسجلين أرقاماً قياسية وأسهموا في أزمة حدودية عاجلة. ومع ذلك فإن المفاهيم الخاطئة كثيرة. يبدو الأمر كما لو أن رؤية مهاجر يتسلق جداراً أو يخوض في الشاطئ أصبح الآن بمثابة اختبار روشاخ لنا (اختبار روشاخ هو اختبار نفسي يستخدمه علماء النفس لتحليل صفات الشخصية والأداء العاطفي لدى المجيب على الاختبار). واستناداً على مكاننا في الطيف السياسي، فإننا ندرك حقائق مختلفة: فبعضهم يرى «غزواً» لأصحاب البشرة البنية، وبعضهم الآخر يرى حرب مخدرات متواصلة، وأزمة إنسانية، وفشلاً سياسياً، وعرضاً للانهيار المجتمعي. التسييس كثير، والتشوهات رهيبة.
أكثر من أي شيء آخر، تحجب هذه الصور حقيقتين رئيستين: ليس كل المهاجرين الذين يعبرون الحدود الجنوبية هم من أميركا اللاتينية؛ إذ يعد القادمون الصينيون الجدد الآن المجموعة الأسرع نمواً القادمة من المكسيك. ومعظم اللاتينيين ليسوا عابرين غير شرعيين بلا جذور- أو عبئاً على المجتمع - كما قد يظن بعض المواطنين، ولكنهم قوة للتقدم الأميركي.
غالبية اللاتينيين في هذا البلد ولدوا هنا ويتحدثون الإنجليزية. وبعضنا لديه عائلات سكنت هذه القارة قبل فترة طويلة من وصول المهاجرين إلى شواطئها. لقد قاتل اللاتينيون بإخلاص في كل حرب أميركية منذ الثورة. كان رئيس الذخائر الثامن بالجيش، الجنرال ستيفن فنسنت بينيت، من أصل إسباني. وكان الأدميرال الأول في البحرية، ديفيد فراجوت، والذي يتوسط تمثاله ميدان فراجوت على بعد خطوات فقط من البيت الأبيض، من أصل إسباني، كما أن واحداً من كل أربعة من مشاة البحرية الأميركية اليوم هو لاتيني.
نحن أميركيون. لقد خدمنا أميركا منذ تأسيسها؛ لقد أسهمنا بشكل كبير في ثقافتها وعلومها. ولا يتم تدريس سوى القليل من هذا التاريخ في المدارس العامة الأميركية؛ وفي صناعات الإعلام والترفيه، كانت صورة اللاتينيين تاريخياً سلبية تماماً، هذا إن كانت موجودة على الإطلاق. وهذا أيضاً يحتاج إلى التغيير.
خذ الاقتصاد على سبيل المثال. أظهرت الأبحاث أن العمال المهاجرين يدفعون الضرائب وليس لهم أي تأثير على الميزانيات الحكومية. سواء كانوا يعدون الفطائر في الشارع أو يجلسون خلف مكتب مصقول في شركة كبرى، يشغل العمال اللاتينيون كل درجات الاقتصاد ويسهمون بشكل كبير في النجاح المالي لهذا البلد.
لعدة قرون، كانت ريادة الأعمال مفعمة بالحيوية، بدءاً من تجار القرن 16 في مستوطنة سانت أوغسطين الإسبانية في فلوريدا؛ أو «خوان رودريجيز»، أول قادم من الدومينيكان في مانهاتن، والذي كان يتاجر بالأسلحة مقابل الفراء ويخدم الهولنديين وكذلك الأميركيين الأصليين. في العقد الأول من القرن 19، قام رعاة البقر المكسيكيون، أول رعاة للبقر في القارة، بتدريب طبقة ناشئة رعاة البقر الأبيض، وتزويدهم بالسروج والقبعات الكبيرة، والسترات الجلدية الواقية والحبال. وبعد قرن من الزمان، خلال الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وصلت موجات من الكوبيين والبورتوريكيين إلى الساحل الشرقي، جالبة معهم البوديجا (متاجر البقالة)، والبالاداريس (المطاعم التي تديرها عائلات)، وغيرها من المؤسسات اللاتينية النابضة بالحياة.
وفي غضون جيل واحد، كان محللو وول ستريت - ورئيس أميركي - يتعجبون من الفطنة التجارية التي يتمتع بها اللاتينيون. لكن الانفجار الذي حدث في السنوات التالية كان أكثر إثارة للدهشة. على الرغم من أن أصحاب الأعمال من أصل إسباني يواجهون في كثير من الأحيان صعوبة في الحصول على التمويل، إلا أنه خلال العقد من عام 2012 إلى عام 2022، تضاعفت أعمالهم الصغيرة بنسبة 44% (أكثر من 10 أضعاف معدل الشركات الأخرى ذات الحجم المماثل). وهذا غزو من نوع آخر.
من المثير للدهشة أن ما يقرب من 90% من مشاريع المهاجرين اللاتينيين التي تكسب ما لا يقل عن مليون دولار سنوياً مملوكة لجيل الألفية (الأشخاص في أواخر العشرينيات إلى أوائل الأربعينيات من العمر) الذين جاءوا إلى الولايات المتحدة كشباب. وخير مثال على هؤلاء رجل الأعمال الأرجنتيني «إيزيكيل فاسكيز جير» وزوجته الفنزويلية «مافي بوليني»، اللذين سافرا إلى واشنطن من وطنهما عندما كانا في الرابعة والعشرين من العمر وبدآ من أسفل السلم الاقتصادي. ومع مرور الوقت، حلما بامتلاك مطعم، واستخدما مدخراتهما للمساعدة في تمويل مشروعهما الأول، وانتهى بهما الأمر بامتلاك ستة مطاعم في العاصمة (حصلت إحداها على نجمة ميشلان).
وينطبق هذا أيضاً على خوسيه، وهو هندوراسي أجريت مقابلة معه في هذا المقال، والذي طلب مني إسقاط لقبه بسبب وضعه غير الموثق. بعد خمس عمليات ترحيل متسلسلة من كل من الولايات المتحدة والمكسيك، عبر خوسيه الحدود أخيراً عندما كان مراهقاً، وبدأ العمل كعامل بناء متواضع، وهو الآن، يبلغ من العمر 43 عاماً ولا يزال بدون أوراق، يمتلك منزله الخاص في إحدى المدن الأميركية الكبرى، بالإضافة إلى شركة كبرى لأعمال السباكة.
إن المساهمات التي قدمها أولئك الذين لديهم عائلات تعيش هنا منذ قرون، وأولئك الذين وصلوا العام الماضي فقط، كانت هائلة. في كل عام، تدر الشركات اللاتينية نحو 800 مليار دولار للاقتصاد الأميركي. ولم تشهد مجموعات قليلة من رواد الأعمال في الولايات المتحدة هذا القدر من النمو، إن وجدت.
لكن هذا لا يحكي القصة بأكملها. هناك هذه المؤسسات الصغيرة - عمليات تنظيف المنازل، وشركات البناء، وشركات النقل بالشاحنات، ومحلات التجميل، والأسواق العرقية والمطاعم من مانهاتن إلى لوس أنجلوس - والتي توظف الملايين. كان اللاتينيون مسؤولين عن 73% من نمو القوى العاملة في الولايات المتحدة بين عامي 2010 و2020. وإذا كان اللاتينيون في الولايات المتحدة يشكلون أمة منفصلة خاصة بهم، فإنهم كانوا سيمثلون خامس أكبر ناتج محلي إجمالي فى العالم.
إذا كانت مساهمات اللاتينيين في الاقتصاد موجودة في كل مكان، وإذا كان تاريخنا على هذه الأرض قديماً ومشرفاً، فلماذا تكون هذه التصورات منحرفة إلى هذا الحد؟ لماذا الكراهية عميقة جداً؟ لماذا يعتقد الأميركيون من غير اللاتينيين خطأً أن واحداً من كل ثلاثة منا يمكن ترحيله؟
إنها ليست مجرد عنصرية. إنها عدم رؤيتنا. وحتى عندما نملأ الفصول الدراسية ونطعم الأمة ونساعد في إبقاء الاقتصاد على قدميه، فإنه في كثير من الأحيان يتم تجاهلنا - حيث يتم محونا بشكل غير عادل من المناهج الدراسية، ومن وسائل الإعلام، ومن مجالس إدارة الشركات، ومن التاريخ. ربما حان الوقت لأميركا أن تعيد النظر.
ماري أرانا
مؤلفة كتاب «لاتينو لاند: صورة للأقلية الأكبر التي يساء فهمها»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»