لو استجاب الرئيس بايدن لليسار الذي كان يطالب بربط المساعدات الأميركية لإسرائيل بشروط، أو بإدانة عملياتها الحربية علناً، أو المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، لما كانت هناك فرصة لإطلاق سراح أي رهائن أو لزيادة المساعدات الإنسانية. ذلك أن بايدن فهم شيئين اثنين لم يفهمهما منتقدوه.
أولاً، رغم ما يعتقده منتقدو إسرائيل، فإن الولايات المتحدة ليست لديها القدرة على إصدار أوامر لإسرائيل كما لو كانت دولة تابعة. فإسرائيل ستفعل ما يتعين عليها فعله من أجل البقاء. وحتى من دون موافقة أميركية، فإنها قامت وستقوم بعمليات عسكرية تعتبرها ضرورية لأمنها القومي. بعبارة أخرى، فإن إسرائيل، وكما هو الحال مع أي دولة أخرى على هذا الكوكب، ستعمل على الدفاع عن نفسها حتى وإن كان ذلك يشكّل تحدياً لرغبات حلفائها.
ثانياً، كل حكومة إسرائيلية مطالَبة بأن تكترث للرأي العام الإسرائيلي، مهما كانت غطرستها. وإذا كان الجمهور الإسرائيلي يثق في الرئيس الأميركي ويحتضنه، فإن الحكومة الإسرائيلية ستميل إلى دعم وجهات نظره بشأن المنطقة وتفكيره الاستراتيجي. والرئيس الأميركي الذي يعتقدون أنه حريص على مصالحهم يستطيع إقناع الإسرائيليين بأنهم سيحظون بحماية أفضل إذا تعاونت حكومتهم مع الولايات المتحدة. فقرارات تجميد المستوطنات في الضفة الغربية، والهدنات في الحروب مع غزة، والتنازلات عن بعض الأراضي.. كلها تأتت بعد ضغط خفيف من رؤساء أميركيين يحظون بالثقة.
وبالنظر لهذين العاملين، فإن بايدن يعرف أفضل من أي زعيم عالمي، ومعظم «الجمهوريين» وبعض «الديمقراطيين»، أن هناك طريقة صحيحة للتأثير على عملية صنع القرار الإسرائيلية. فالجمهوريون يعتقدون خطأً أن تشجيع الميول الإسرائيلية الأكثر طموحاً وعدوانيةً هو السبيل لتحقيق السلام، هذا في حين يعتقد بعض الديمقراطيين أن مضايقة إسرائيل العلنية ستجلب السلام، غير مدركين ميل إسرائيل إلى الإمعان في عملها إذا لم تشعر بالأمان. 
لكن الوضع الحالي يؤكد حكمة تكتيكات بايدن، التي صقلها عبر عقود من الخبرة في مجال السياسة الخارجية وتولّيه منصب نائب الرئيس خلال رئاسة كانت تنتهي في كثير من الأحيان بمعارك علنية غير مثمرة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي. 
ولنذكر هنا ما حدث خلال الأسابيع القليلة الماضية. فبعد عملية 7 أكتوبر، هبّ بايدن فوراً للدفاع عن إسرائيل. فأدان الفظاعات ودافع عن حق إسرائيل في استئصال «حماس»، مشدداً في الوقت نفسه على ضرورة أن تلتزم الدولة العبرية بقوانين الحرب. كما أكد أن الفلسطينيين هم أيضاً ضحايا، موضحاً أن حلاًّ للصراع الفلسطيني الإسرائيلي سيكون ضرورياً من أجل تفادي مزيد من الهجمات. كما زار إسرائيل إبان الحرب. وعلى نحو غير مفاجئ، احتفى به الإسرائيليون أيما احتفاء. 
ثم بدأت مقاربته الدقيقة والثابتة والبطيئة ذات المسارين. ففي العلن، لم يتردد بايدن أبداً في دعم أهداف الحرب الإسرائيلية. غير أنه عمل بشكل متزايد على إقران رسالته الداعمة بالجزء الثاني من رسالته: أن الفلسطينيين هم ضحايا «حماس» أيضاً. وهذا يعني ضرورة إظهار قدر أكبر من الحرص على تقليل الخسائر في صفوف المدنيين إلى أدنى حد ممكن، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وتحقيق تطلعات الفلسطينيين إلى تقرير المصير. وحذّر بوضوح من إعادة احتلال إسرائيل الدائم لغزة. 
وفي غضون ذلك، استخدم بايدن رأسماله السياسي هذا، بعيداً عن كاميرات وسائل الإعلام، للضغط على إسرائيل من أجل الموافقة على هدنات وزيادة المساعدات الإنسانية. واستعان بفريق ذي خبرة كبيرة يتمتع بكامل دعمه. ومع أنه من غير الواضح ما إن كانت إسرائيل قد غيّرت تكتيكاتها بسبب بايدن، إلا أنه من المؤكد أن قلقه المستمر بشأن الخسائر في صفوف المدنيين قد أثّر على عقول القادة والساسة الإسرائيليين. وإلى جانب نصائحه وتحذيراته لإسرائيل، استخدم بايدن الهاتف كما لم يستخدمه سوى عدد قليل من الرؤساء الأميركيين. ونظراً لأنه كان على اتصال مستمر مع قطر ومصر ومع فريق تفاوضي فوّضت له كل الصلاحيات من أجل معالجة التفاصيل، فإنه أرغم كل الأطراف على التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن. 
ويعتقد جلّ خبراء الشرق الأوسط أن نتنياهو ما كان ليوافق على هدنة مؤقتة من دون إطلاق سراح كل الرهائن لولا بايدن. وبالمثل، فإن عملية تبادل الرهائن ما كانت لتُمدَّد لولا تدخل بايدن.
ولو طالب بايدن في وقت سابق بوقف إطلاق النار، كما دعاه المنتقدون لذلك، لما نجح على الأرجح. ولكانت فعّاليته في الضغط من أجل وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن قد انتهت. ومع أنه لم يُعترف له بالفضل في ذلك داخلياً، فإن استعداده لتجاهل المطالب غير الواقعية للمشرّعين والمنظمات ذات الميول اليسارية كان ضرورياً لنجاحه الدبلوماسي.
ورغم أن وسائل الإعلام التقليدية في الولايات المتحدة لم تنظر إلى أسابيع المساعي الدبلوماسية إلا من منظور الحسابات السياسية الحزبية الضيقة (الديمقراطيون منقسمون! بايدن يخسر الشباب!)، كما تفعل في معظم الأحيان، فإن بايدن كان يحقّق ما أراده التقدميون: وقف الأعمال العدائية (وإن كان قصيراً) وعودة الرهائن، وكلاهما ضروري من أجل إنهاء الحرب. 
وبهذا استطاع بايدن مرةً أخرى أن يفوق التوقعات. واتضح أنه يفهم نتنياهو ودينامية الشرق الأوسط بشكل أفضل بكثير من المعلّقين السياسيين والجناح اليساري في حزبه.


ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»