لنعد مئتي عام إلى الوراء ونفترض أن لأهل ذاك الزمن وسائلَ إعلامية مثل التي عندنا اليوم وحدث أن فئة منهم طرحوا فكرة سيارات تخدم المواصلات داخل المدن بديلاً عن الدواب وما تجره من عربات، وفي القابل جاءت أطراف أخرى وأخذت بالحديث عن تحويل المدن إلى شوارع مكسوة بالزفت وأنها ستقضي على الأزقة والحارات وستمزق العلاقات بين العائلات، وتفتت البنى السكنية والاجتماعية، وتسبب التلوث، والضجيج وتحتل الأماكن كمواقف لها، وأنها تخلق العزلة بحيث يظل الواحد في سيارته لساعات معزولاً عن كل البشر وسط كبسولة حديدية، تتحرك بسرعات خطيرة وتوقع حوادث قاتلة، وقد تصل أعداد الوفيات بسببها أرقاما مخيفة، وكذلك ستسبب صرف مبالغ مهولة من المال، وفي حين تلف السيارات سيراكم الحديد مما يصنع تأثيرات بيئية مدمرة.

وهذا الوصف سوف يمثل سردية التخويف الثقافي الذي يستنهض مشاعر البشر ضد كل ما هو مختلف وواعد بتغيير جذري عن معتاد الحياة، وهذا بالضبط ما يحدث اليوم في الهوس الثقافي في صناعة التخويف من طارئ علمي وصناعي ينتظر البشرية، وهو طارئ لن يمتنع عن الحدوث لمجرد التخويف منه كما حصل للسيارات التي لم تمنعها أساطير الخوف من أن تنتشر رغم مضارها الجمة، ولكن منافعها تتفوق في لعبة الإغراء البشري في التميز والحصول على أحسن موديلات السيارات رغم شكاوينا من التلوث والحوادث.

وهذه سيرة البشر مع أنفسهم وتقلبات أحوالهم بين أمانٍ يقدمه السكون والركون، ورغبات مضادة للسكون تفرض التطلع للمختلف والمثير رغم الخوف الأولي من المختلف والمثير، وتنشط الذهنية البشرية في ابتكار المختلف بمثل ما تنشط في صناعة التخويف بدرجة متساوية من الترغيب والترهيب، وفي النهاية ينتصر التغير.

وتدفع البشرية ثمن التغيير مهما ارتفع، لأن الإنسان مجبول على طينتين واحدة خوافة وأخرى مغامرة، وكما نحن الآن بصدد الذكاء الاصطناعي ونمارس لعبة التخويف منه فإن اللعبة نفسها مرت من قبل ولم تفلح في منع تقدم المعرفة وكذلك ستتكرر في أزمنة تأتي وذلك بعد أن تستقر دولة الذكاء الاصطناعي وتأتي بعدها فكرةٌ أكثر جنوناً فتدخل في لعبة التخويف والترغيب ولكن ينتصر الترغيب في النهاية، كما ظل ينتصر رغم أنف ثقافة التخويف.

كاتب ومفكر سعودي- أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض