اللغة نسق من العلامات والرموز، والفلسفة خطاب يروم إدراج العقل في العالم، ولهذا النسب العلمي بين اللغة والفلسفة اهتمت الفلسفة منذ الإغريق بمعاني الألفاظ وبعلاقة العلامات بالفكر والأشياء، ورافقها النّحوُ باستمرار مهتماً بوصف اللغة، كما رافقها المنطق محتفلاً بالاستدلال والحجاج. وأن تصبح اللغة موضوعاً للتأمل الفلسفي في البواكير الأولى منذ محاورة «كراتيل» وكتاب «العبارة» لأرسطو، يعني أن الفلسفة واللغة روحان حلّا جسداً واحداً.
ولعل أول وجه يظهر لعلاقة الفلسفة باللغة هو صلة اللغة بالفكر، وقد اهتمت الفلسفة منذ أرسطو بالسّبارات التي تجعل الفكر منتجاً لليقين، فأضحت اللغة تشكل الأفكار في قوالب قياسية مختلفة، أضحت اللغة جسد الفكر، وأصبح النهوض باللغة يقتضي النهوض بالفكر، إذ كلما اتّسعُ الفكر لحق اللغة الثرّاء الدّلالي. ويعرف الحقل العلمي والفلسفي المعاصر اليوم اهتماماً بعلاقة اللغة الفكر، فظهرت إلى جانب «فلسفة اللغة» «فلسفة العقل»، وأصبح «علم النفس المعرفي» نشيطاً في هذا المجال. فاللغة هي التي تشكل رؤيتنا للعالم بعبارة الألماني هيمبولت. والفلسفات ليست سوى رؤى مختلفة إلى العالم.
لم يكفّ المسلمون، عبر تاريخهم الأدبي واللغوي الكبير، على الاشتغال على اللغة العربية إثراء وتقعيداً وتوليداً واشتقاقاً، لكنَّ نقلتها الكبرى في المجال الذي يُهمّنا ها هنا هو ساعةَ لقائها مع الفلسفة المترجمة، في الفضاء العلمي لبيت الحكمة دخلت اللغة العربية المختبر الفلسفي ليتم صقلها وتطويعها للعبارة عن معاني الفلسفة المستحدثة. استضافت روح اللغة العربية الفكر الفلسفي الجديد، فكان تعبيرها عن معاني أفلاطون وأرسطو وغيرهما بلسان عربي فلسفي مبين، ولم تجد في ذلك كبير عسر، لأنها لغة فلسفية بالقوة، سنحت لها الفرصة لتُخْرج أفضل ما تختزن من إمكانات هائلة في التعبير والاشتقاق، ولتصبح، مع الزمن، لغة فلسفية بالفعل. فبلاغةٌ عربيةٌ تهتّم بالمعاني، وأخوة الكلمات، والأرحام التي بينها، لعنايتها بمناسبة الألفاظ لمعانيها، كفيلة بأن تدهش. وقد دُهشَ بعض الدارسين فعلاً، عندما وجد أن اللغة العربية قدّمت لكل اصطلاح يوناني مقابله العربي تقريباً، مما يسر تسرّب المضمون الفلسفي وأدواته إلى الوعي الثقافي العربي في شتى مجالات تجلّياته.
سيكون الكنْدي نقطة العبور الفلسفي للغة العربية، بعد جابر بن حيان مؤسس المصطلح الفلسفي العربي على ما يتبين من «رسالته في الحدود». لكن النثر العربي الفلسفي لن يبلغ أوجه إلا مع أبي نصر الفارابي، فمعه أصبحت اللغةُ العربيةُ لغةً فلسفيةً بالفعل، فكان المعلمُ الثاني المؤسسَ الحقيقي للمصطلح الفلسفي العربي، لنصبح أمام لغة فلسفية دقيقة بألفاظها الدّالة على عوالم جديدة، حتى إنه يمكن القول إن اللغة الفلسفية مع الفارابي أصبحت تُنظِّمُ ثقافتنا العربية الإسلامية. فمع أبي نصر دخلنا مرحلة لغة الفلسفة بعينها، وليس لغة فلسفة عصر التّرجمة، فقد كان الفارابي عقلاً فكرياً رائعاً أُقْدر على تغيير الحياة الفكرية للمسلمين، ففضلاً عن كتاب «إحصاء العلوم» و«كتاب الحروف» الذي قعّد فيه الفارابي للمصطلح بعامة، والمصطلح الفلسفي بخاصة، فإن رسائله وكتبه تمتلئ بكثير من المصطلحات الفلسفية التي هي لغة كل زمان، وليست لغة عصر بعينه.
لقد أسهم الفارابي في خدمة اللغة العربية خدمة جليلة عندما خلع عليها الثَّوبَ الفلسفي الكوني، فنقلها من لغة محلية إلى لغة عالمية يقبل عليها دارسو الفلسفة في جميع أصقاع العالم، حيث طوّع معاني اللغة العربية فسهل عليه استدخال المعاني الفلسفية المبتدعة، ليعرَّب الفلسفة تعريبه البديع، ويضفي على رصيدها اللغوي حيوية، وعلى دلالتها تنويراً، وهو ما نأمله اليوم من الجهود التي تصب على اللغة العربية الحديثة لإعادة توهجها الفلسفي القديم. 

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية