لقد تنوعت وتعددت السياقات المحتدمة مع الفلسفة بشكل عام، وفلسفة الأخلاق بشكل خاص، حتى باتت تشكل الأطروحات الفلسفية مصدر قلق ولبس في فهم المشكل، وتوضيح المعلوم، والاستزادة بالمتوفر. 
وتنبغي الإشارة إلى أن هناك مظاهر مختلفة متولدة عن سوء الفهم أو قصوره في السياق الفلسفي، أو الأوعية الكبيرة الضامة له، والمتصلة به، ولكنها مجتمعةً سرعان ما تتبدد عند «مفترق طرق البشرية» بين القديم والحديث، لا سيما أن الإنسان يعيش في عصرانية «هول التسارع»، ليبرز طرح جديد أغلبه من التساؤلات حول هذه الحالة الجديدة وسيناريوهاتها. وعند الحديث عن إحدى أكبر تلك الجدليات، نجد أن في الدين والفلسفة تراكيب لطالما جمعت في مضمار التنافس والاختيار بين الإثبات والنفي، رغم أن البراهين تتجدد في سياق المواءمات التي تمد خيوط التشارك بين الفلسفة والدين، وتستثمر شتى مواضع الاختلاف والنقاش، باعتبارها عصباً نابضاً للجديد القادم من جدة الفهم وصحة التصور. 
إن الفصل التام بين الإنسان وطبيعته يعتبر مستحيلاً، لا سيما أن الطبيعةَ سُخرت له كي يتفاعل مؤثِّراً ومتأثراً. وإذا كان هذا نهج معيشته منذ القدم، فكيف يكون عكس ذلك في زمن المواءمات الحضارية، وحقبة النجاح بتذليل الصعاب والتحديات، وإنعاش حقول الدرس، وإشراقات سماء المشتركات الثقافية، وبخاصة بعد اجتماع البشرية على ضرورة التحالف القيمي والتكامل المعرفي؟ الفلسفات جزء لا يتجزأ من طبيعة هذا السياق، وعليه فإن الوقوف على رأس الجبهات الفكرية الدينية المتناطحة مع الفلسفة لا يعني ملمحاً سلبياً بقدر ما يسوّق لجدة في الطرح وتخطي العقبات التي قد تصطدم مع تفسير العلاقة بين الديني والفلسفي. وقد لمسنا ذلك في مؤلف ابن رشد الحفيد الذي تناول فيه النظر في الموقف القائم بين الشريعة والحكمة (الفلسفة). 

وهنا نقف للنظر في مواضع الاختلاف والاحتدام المعرفي كنقطة للتوالد والتجدد الفكري والثقافي. وهنا أيضاً يرتدي الإنسان نظارةً جديدة تعينه على تجديد الرؤية للتحديات الفكرية، والاختلافات الثقافية، والتنوعات النقدية.
وفي صورة أخرى، فإن إدراك القديم هو انطلاق جديد حقيقي، وإذا لم نعِ زوايا الجدل بين الدين والفلسفة، لن نستطيع ترتيب إجابات حول المستقبل. ونجد في الفهم الفلسفي لدى العلامة الشيخ عبد الله بن بيه ملامح واضحة عن ذلك، فالفلسفة تساندية تكاملية، بعيدة عن مواضع العراقيل والتعارض، واقفة على أساسات ثلاث (الحس والعقل والوحي) لا غنى عن أحدها، فهي لا تصبو لتمثيل فلسفة الشك الديكارتية، ولا تهمل ميزان العقل، وتندرج حساً وعقلاً تحت رعاية الوحي المرشد والموجه للسبيل السليم، وصولاً لنصاعة في الفهم بعيدة كل البعد عن العبثية وعن النهايات المفتوحة للخيال. وهنا يكون التناغم والانسجام الذي لا يمثل النتاج وحسب، بل يعكس «ألفبائيات» العملية الفلسفية والجدوى من وجودها المثري، واحترام الوظيفة النقدية التي تؤكد المكانةَ الأخلاقية كعماد مركزي تتكئ عليه المجتمعات الإنسانية في أمنها واستقرارها وتقوية روابط علاقاتها التشاركية الفاعلة. 
وقد جاء بصورة طبيعية منطقية الربط بين كل من الفلسفة والدين والأخلاق، وتحول العديد من الجهود الفلسفية للبحث في الأخلاق، باعتبارها مرادفاً لكينونة ومقصد الوجود الإنساني، هذا الوجود الذي تُضاف إليه في كل يوم معطياتٌ جديدة بفعل الحركة الكونية والتمدد التقني والتكنولوجي الواسع، وفي ذات الوقت ما يشهده الإنسان من حركات معاكسة لفطرته وسجيته، فهل يمكن الاستغناء عن التفلسف هنا؟ 
للمسؤولية الأخلاقية اليوم وقع مختلف، ففي خضم المشكلات الكونية تزداد الحاجة للتصور الفلسفي الأخلاقي الديني المعرفي، تماماً كما تتجدد حتميات التعاون والتشارك، والحفاظ على البيئة ومصادر الطاقة والتنقيب على ينابيع استدامة لا تنضب. ولا ريب في أن الشاعر أحمد شوقي حين قال: «وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا»، كان مدركاً أن الأساس النقي للحضارة هو الإنسان الذي يستقيم باستقامة حمولته الأخلاقية وقاعدته الفلسفية المتزنة.. فالأخلاق طاقة السلوك، والسلوك مرآة الثبات القيمي والمعرفي والمخزون الثقافي الواعي للأخلاق. 

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة