لعقود من الزمان، حَرم اليسار نفسَه من الطاقة والقوة الإقناعية لخطاب الحقبة السياسية الأكثر فعاليةً وهي القومية. والقومية غالباً ما تكون رجعيةً وإقصائيةً، ومن المفترض أنها تنتهك مُثلاً عالميةً كثيرةً تعتبر من محددات التقدمية. واتضح لليبراليين المهتمين بحماية الحقوق الفردية والشاملة في ديمقراطيات متنوعة أن إنشاء هوية قومية بشكل هادف يمثل تحدياً. ولدى قادة التقدمية وحركاتها كل مسوغ لإعادة تعريف الهوية القومية بطريقة تحقق توازناً عصياً على التحقق بين الاستثنائية والاحتوائية. 
وقلل مناصرو العولمة الليبرالية دوماً من قدرة صمود القومية. وعلى الرغم من أن الهجرة والتجارة وتغير المناخ موّهت الحدود بين الدول، ظل مفهوم الأمة أساسياً. ولأن هذه الظواهر العالمية تهدد فيما يبدو سيادة الدولة، يولي كثير من المواطنين أهمية متزايدةً للهوية القومية. وأصبحت القومية محورية في تعريف الجماعة السياسية والدفاع عنها في أزمنة الاضطرابات. لكن اليسار تردد في اتباع منطق البقاء القومي لإقناع الجمهور بفضائل قائمة أولوياته السياسية. ويوحي بحثي بأنه يجب عليهم ذلك. 
لقد أجريت مع باحثين آخرين، العام الماضي، مسحاً على نحو 21 ألف بالغ في 19 دولةً أوروبيةً. وتم تزويد مجموعة فرعية من الخاضعين للمسح بمسوغ منطقي للهجرة شدد على ضرورتها «للحفاظ على عدد سكان الأمة». وكان الأشخاص في هذه المجموعة أكثر ميلاً لدعم تزايد الهجرة عن أولئك الذين لم يجر تزويدهم بهذا المسوغ المنطقي. وفي دول أوروبا الغربية، حيث تؤدي معدلات الخصوبة المرتفعة للأقليات إلى تقليص آثار شيخوخة السكان، قاوم الخاضعون للمسح تخويف اليمين المتطرف من «نظرية الاستبدال» بعد تصوير الهجرة باعتبارها حيويةً لقدرة الأمة على الاستمرار. 
والسياسات الليبرالية الأخرى لها الحيوية نفسها للبقاء القومي، ومن ثم يمكنها الاستفادة أيضاً من الإطار القومي. والرعاية الصحية الشاملة تدعم القدرةَ التنافسيةَ الاقتصاديةَ عبر الترويج لقوى عاملة وسكان أفضل صحة. والتعليم العام القوي يمثل استثماراً في تدفق الابتكار واستدامة القوة الاقتصادية للولايات المتحدة. والتحرك لكبح تغير المناخ يحافظ حرفياً على المدن الساحلية والمناطق المعرَّضة للحرائق والجفاف والعواصف الاستوائية. ويتمثل التحدي الذي يواجه الليبراليين في أن المحافظين نجحوا في تصوير احتواء اليسار للأقليات على أنه دليل على أن البِيض المولودين في البلاد لم يعودوا جزءاً من الأمة التي يسعون إلى الحفاظ عليها. ومن السهل جداً وضع جهود التصدي لتغير المناخ، على سبيل المثال، في إطار أنها مسألة تتعلق بمدن متباينة السكان مثل نيو أورليانز أو ميامي أكثر من كونها مسألةً تتعلق بهشاشة وضع مزارعين يواجهون انخفاض أسعار المحاصيل وتكاليف التأمين المرتفعة. فكلاهما صحيح على كل حال. 
وبالمثل، فالسياسات الأخرى التي تساعد مجتمعاً واحداً تستفيد منها غالباً الأمة بأكملها. فالتوسع في الرعاية الصحية يستهدف فيما يبدو جماعات الأقليات، لكن قانون الرعاية الصحية الميسورة أتاح إمكانية دخول جديدة للحصول على تأمين صحي لعدد من الأميركيين البيض (نحو 8.9 مليون) أكبر من عدد الأميركيين اللاتينيين والسود مجتمعين (نحو 7 ملايين). ويتم تصوير الاستثمارات في المدارس العامة الأميركية على أنها محركات للحراك الاجتماعي لأطفال المهاجرين، لكن هناك أبحاث تشير إلى أن زيادة عدد أقرانهم من المهاجرين يعزز أيضاً فرص الطلاب المولودين في الولايات المتحدة في إتمام الدراسة الثانوية والتحصيل الأكاديمي. وليس من المستغرب أن يقضي زعماء ليبراليون ناجحون، مثل الرئيس بايدن والرئيس السابق باراك أوباما، وقتاً أقل في انتقاد المتعصبين للبيض، ووقتاً أطول في احتواء أفراد الطبقة العاملة من البيض وسكان الضواحي البيض في تصوراتهم عن الأمة الأميركية. وقد أكد بايدن، في ختام خطابه الأخير عن حالة الاتحاد، على أننا «الأمة الوحيدة على وجه الأرض التي حولت دوماً كل أزمة واجهتها إلى فرصة». ويحاول بايدن الآن خوض غمار سياسات الهوية الشائكة لمتابعة «قائمة أولويات وحدة» من الحزبين. صحيح أن أوباما استعان بسياسات الهوية بشكل أقل بكثير مما كان يرجو منتقدوه التقدميون، لكنه استوعب بكيانه أن مفهوم «الشعب» يجب أن يكون احتوائياً وإقصائياً في آن واحد. فقد كانت كلمة لأوباما، في فيلادلفيا، في مارس 2008، تقييماً صريحاً لأميركا التي تعلي من شأن الخطاب القومي لتجسر الفجوة بين الانقسامات. وجاء في كلمة أوباما: «قد تكون لدينا قصص مختلفة، لكننا نتمسك بآمال مشتركة، قد لا نبدو متشابهين وربما لم نأت من المكان نفسه، لكننا جميعاً نريد التحرك في الاتجاه نفسه، أي نحو مستقبل أفضل لأبنائنا وأحفادنا». وأقر أوباما بـ«استياء الأميركيين البيض» وبأن هذا الاستياء «قائم على مخاوف مشروعة». وحثَّ الأميركيين الأفارقة على ربط مظالمهم الخاصة بـ«التطلعات الأكبر لجميع الأميركيين». 
ومن المؤكد أن أوباما كان شخصية استثنائيةً. لكن حتى في ظل غياب شخصية كأوباما، يستطيع التقدميون اليوم غرس أشكال جديدة من القومية بتحركهم لاحتواء جماعات متباينة في هدف وقصة قوميين. وكي يستطيعوا المنافسةَ انتخابياً وتحقيق الأهداف التقدمية، يجب عليهم غرس هذا الإحساس المشترك بالهدف في كل مؤسسة وفي كل فرصة. وكانت بصمة أوباما على فهمنا لذاتنا القومية واضحة وهي أن أميركا تتطور. فنحن لسنا أمة متجانسة وسكونية، بل كيان متحرك. وببذل بعض الجهد، يستطيع اليسار بناء جسور عبر الحدود الاجتماعية والحزبية وتحديد هوية تسمح لجميع الناس برؤية أنفسهم في أعين المواطنين المتنوعين والاستماع على الأقل إلى وجهات نظر بعضهم البعض. وللقيام بهذا، يجب عليهم، مثلما فعل أوباما، إعادة تعريف من «نحن» في مواجهة الرجعية المحافظة. فقد اشتهر عن المؤرخ بنديكت أندرسون قوله: «القومية لا توقظ الأمم لتعي ذاتها، بل تبتكر أمماً لم تكن موجودة». وفي مواجهة التغيير والانقسام السكاني في أميركا، يجب على الليبراليين ابتكار الأمة من جديد. 

جاستن جيست

أستاذ مساعد في كلية شار للسياسة والحكومة بجامعة جورج ميسون
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس