جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية في شيلي حُسمت يوم 19 ديسمبر بفوز مرشح اليسار، وكانت هي أهم انتخابات في البلاد منذ العودة إلى الديمقراطية عام 1990.

فقد أشاعت الحملة المحتدمة الصراع الاستقطاب في البلاد ورسخت جدلاً سياسياً جديداً قائماً على الهوية. وفي محاكاة للتوجهات في دول أميركية لاتينية أخرى وفي الولايات المتحدة، يطغى الآن الصراع على الهوية القومية وما يعنيه كون المرء شيلياً على قضايا السياسة الأساسية التقليدية. وكان يتنافس في انتخابات تشيلي خوسيه أنطونيو كاسيت، الذي خسر السباق، وهو سياسي من اليمين المتطرف يشبهه كثيرون بدونالد ترامب وخايير بولسونارو، مع جابرييل بوريك، النائب من أقصى اليسار والقيادي السابق للطلبة.

ويتحدث «كاست» بشغف عن الحقبة السابقة من الديكتاتورية في عصر الجنرال أوجوستو بينوشيه ويشوه سمعة بوريك واصفاً إياه بدمية شيوعية. ووضع بوريك ترشيحه في إطار الكفاح ضد الفاشية، وهو موقف يتعزز بالكشف المدوي لانضمام الأب الألماني المولد لكاست للحزب النازي عام 1942. والمراهنات كانت على أعلى ما يكون. والمؤتمر الدستوري في تشيلي من المقرر أن يطرح العام المقبل أكبر تعديل للنظام السياسي للبلاد منذ ديكتاتورية بينوشيه. والرئيس الجديد سيتمتع بميزة تصدر المسرح القومي ليؤثر على قبول أو رفض ميثاق جديد.

وهناك ثلاثة عوامل توجه سياسات الهوية الجديدة في شيلي. أول هذه العوامل: تدفق أكثر من مليون مهاجر إلى البلاد، معظمهم من هايتي وفنزويلا، منذ عام 2014. والثاني: حشد قوى أكبر جماعة من السكان الأصليين في شيلي- قبيلة مابوتشي- لاستعادة السيطرة على الأراضي والموارد التي انتزعت منهم بالقوة أثناء استيطان البلاد. والثالث: التقاليد الاجتماعية التي تتغير سريعاً وحقوق النساء والإجراءات التي اتخذت في الآونة الأخيرة التي تبيح الإجهاض. وسعى اليسار السياسي الذي فاز في الانتخابات إلى توسيع الدعم الاجتماعي والاقتصادي ليشمل المهاجرين. وخصص اليسار مقاعد لقبيلة مابوتشي في المجلس الدستوري.

ورئيس المجلس امرأة من قبيلة مابوتشي تدافع عن حكومة أكثر احتواء وديمقراطية. واتخذ اليسار مواقف تقدمية من المساواة بين الجنسين وحقوق النساء داخل ما يعتبر عادة مجتمعاً تقليدياً. واكتسب اليمين السياسي زخماً بهجومه على هذه المواقف التي صورها باعتبارها تهديداً لهوية تشيلي، محملاً المهاجرين والنشطاء من السكان الأصليين مسؤولية تصاعد الفقر والجريمة والعنف.

وأعلن كاست رغبته في إغلاق الأبواب أمام المهاجرين وبناء حواجز مادية على الحدود الشمالية للبلاد. وفي أكتوبر، أعلنت الحكومة اليمينية التي انتهت ولايتها على الانقضاء حالة الطوارئ، ونشرت قوات في عدد من المناطق الجنوبية، واشتبكت هذه القوات مع قبيلة مابوتشي المطالبة باستعادة الأراضي وحق تقرير المصير. وتعهد كاست بمنح الكنائس دوراً أكبر في المجتمع.

وتُظهر استطلاعات رأي أن كاست الذي خسر يوم الأحد الماضي كان يلقى قبولاً لدى ناخبي الطبقة الوسطى الذين يخشون أن يؤدي تكتل المهاجرين والسكان الأصليين إلى زعزعة استقرار البلاد وعرقلة نموها. واعتمد بمهارة أيضاً على طريقة إدراك الطبقة المتوسطة والعليا في شيلي لمكانتها التي ترتبط في جانب منها بالبشرة الفاتحة، وبالتالي وضع المهاجرين وجماعات السكان الأصليين، أصحاب البشرة الداكنة، في مكانة أقل تمثل «الآخر» الذي يهدد الهوية القومية والاستقرار. وصراع اليسار في تشيلي على قضايا الهوية يعكس الحراك في عدد من الدول الأميركية اللاتينية الأخرى في السنوات القليلة الماضية.

فقد اتخذت كولومبيا وبيرو مواقف مرحبة بالمهاجرين، وخاصة الملايين الفارين من فنزويلا. وتبنت دول مثل بوليفيا وإكوادور وفنزويلا في العقد الأول من القرن الحالي دساتير جديدة تتبنى تعدد القوميات وتعترف بلغات وتقاليد الأقليات من السكان الأصليين الذين هُمشوا لفترة طويلة. وتبنت البرازيل وكولومبيا سياسات عمل داعمة للسكان من أصول أفريقية.

ويتزايد اعتراف عدد من الدول بدعاوى السكان الأصليين بحقوقهم في أراضي أسلافهم. وتظهر أبحاثي أن هذا يأتي بعد تاريخ طويل من نزع ملكية أراضي السكان الأصليين وأيضاً الاستعادة الجزئية من خلال برامج إصلاح- من منتصف إلى نهاية القرن العشرين- تخلصت من استعباد السكان الأصليين وقطعت خطوة كبيرة نحو المساواة بين الجماعات. وأخيراً، وعلى مدار العقد الماضي، تبنى عدد من الدول في المنطقة قوانين تحظر التمييز وحققت تقدماً على طريق تمثيل النساء في السياسة. وهذه الخطوات نحو احتواء أكبر للسكان أدت إلى رد فعل عكسي.

فرئيس كولومبيا الحالي يواجه هجمات تشويه من اليمين المتشدد لموقفه الاستيعابي من الهجرة. وأول رئيس من السكان الأصليين في بوليفيا، إيفو موراليس، أطيح به عام 2019 من ائتلاف لنخب اليمين اعتزم استعادة الماضي «التقليدي». والرئيس البرازيلي بولسونارو هاجم مراراً المهاجرين والسكان الأصليين والبرازيليين من أصول أفريقية. وهذه الصراعات ليست مقتصرة على أميركا اللاتينية. فقد استخدم ترامب الهجرة و«التصحيح السياسي» والأعراف سريعة التحول بشأن هوية النوع ليقصي «الديمقراطيين» عن التيار الرئيسي في أميركا، ويفوز بأصوات الناخبين البيض في حزام الصدأ الأميركي، ويشعل سياسة الهوية والقبائلية السياسية. وقريباً، قد تتعلم تشيلي، ودول أخرى، أن سياسات الهوية ما أن تخرج من قمقمها، فمن الصعب إعادتها إليه.

*أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاجو ومشارك في تأليف كتاب «السلطوية والأصول النخبوية للديمقراطية».

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»