في تعليقها على المشهد الانتخابي الأميركي الحالي، ذهبت صحيفة «لوموند» الفرنسية إلى الحديث عن «المنعرج الههوي لليبرالية»؛ أي تحولها إلى خطاب حول الانتماء والهوية، سواء تعلق الأمر بالنهج العرقي المحافظ الذي تتبناه النخب البيضاء المهيمنة على الحزب الجمهوري، أو النهج العرقي اليساري الذي تتبناه الأقليات الملونة الداعمة لمرشح الحزب الديمقراطي. 
الإشكال جديد في جوانبه الفكرية الأيديولوجية، ويفصل بصفة متزايدة أوروبا الغربية بليبراليتها الكونية، والمجتمع الأميركي الذي تشكل تاريخياً من موجات متلاحقة من الهجرات، وحافَظ على طابعه التعددي القومي.
وإذا كانت الثورة الأميركية طبعت بقوة الحداثة الغربية في نزوعها الليبرالي، فإنها اختلفت في مسار نشأتها عن النموذج الأوروبي، رغم كونه الخلفية العميقة للتجربة السياسية الأميركية. 
وفي السياق الأوروبي تزامنت مفاهيمٌ ثلاثٌ محوريةٌ، هي: المواطنة، والهوية القومية، والانتماء الكوني الذي عرف بمقولة الكوسمبولوتية (أي المواطنة العالمية). وإذا كانت هذه المفاهيم الثلاث تبدو متمايزةً، بل متعارضةً دلالياً، فإنها في الواقع شديدة الترابط والتداخل. 
المواطنة هي التعبير عن الإرادة المشتركة للهوية السياسية المنظمة، كما تبرز داخل دولة سيادية مستقلة، ولذا، فإن المعيار الأساسي فيه هو توافق الإرادات الفردية الحرة في صياغاته القانونية والمؤسسية المحددة.
أما الهوية القومية، فهي دائرة الانتماء المجتمعي الثقافي التي تتماهى إما عملياً وسياسياً مع دائرة المواطنة، أو تتماهى معها من حيث النزوع النظري والمشروع السياسي، كما يحدث في السياقات التي لا تتلاءم فيها حدود الدولة مع حدود الأمة (كما هو شأن الحالة الألمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر). والواقع أن الدولة هي التي صنعت الأمة القومية في غالب الأحيان، من خلال سياساتها التنميطية الإدماجية، حتى ولو كانت شرعيتها الأصلية تفترض هذه الصياغة القومية.
أما فكرة الانتماء الكوني، أو النزعة الكوسمبولتية التي توقف عندها كانط في كتابه حول «السلم الأزلي»، فتنبع من مقتضيات التعايش السلمي بين كيانات وطنية سيادية، ويقتضيها منطق توسيع النظام القانوني المدني إلى دائرة العالم لضبط وتنظيم المجال الإنساني المشترك. ما يتعين التنبيه إليه هنا، هو أن النزعات القومية الحديثة كانت في عمومها إنسانية كونية، تنظر إلى الهويات الثقافية والتاريخية كأحد أوجه الضمير الإنساني الحر والعقلاني.
صحيح أن «جان جاك روسو» ألمح إلى تعارض الفكرة الجمهورية من حيث هي مرجعية وإطار المواطنة في أبعادها القومية الخصوصية مع فكرة المواطنة الكونية، إلا أنه وصل في تصوره الوطني الضيق إلى أفق مسدود بإنكاره، من جهة، استحالة التعبير المؤسسي عن الهوية المشتركة، وعجزه، من جهة أخرى، عن تصور مجال قانوني ينظم السلم الدولي.
إن تجدد الإشكال اليوم، مردّه اعتباران أساسيان: بروز خطاب العولمة ما بعد الحرب الباردة في تصوره لأفق عالمي ما بعد قومي، وانفصام الهوية الأوروبية عن مقوماتها القومية الأصلية. 
وفي مقالة هامة بالعدد الأخير من مجلة «فورين افيرز» (سبتمبر -أكتوبر 2020) بعنوان «مواطن العالم»، يبين المؤرخ الأميركي «جرولد شيغل» أن خصوصية المجال الأوروبي تتمثل في انتقاله مباشرة من النظام الإقطاعي إلى نظام الدولة الوطنية، بما يقوم عليه من توازن بين آليات الانفصال وآليات الترابط. وهكذا في الوقت الذي تأسست الدول الوطنية الأوروبية، تشكلت في الوقت نفسه هوية أوروبية جامعة برزت في صيغة ثقافية فكرية موحدة، ترجمها الإنتاج الأدبي والفني، وكرّستها تقنيات الاتصال الجديدة، وبصفة خاصة القطار الحديدي والمطبعة الحديثة.
وهكذا، امتزجت حركية الليبرالية القومية بديناميكية الكوسموبولتية الكونية، دون تصادم أو تنافر، على عكس الصورة السائدة اليوم حول الصراع المحتدم بين الهوية القومية والمواطنة الكونية. 
إن هذه الإشكالية الراهنة تأخذ أحياناً صيغة الجدل حول ظاهرة الشعبوية المتصاعدة التي ترتبط عادةً بالاتجاهات اليمينية المحافظة، في حين أن هذه العبارة المتداولة على نطاق واسع، ليست دقيقة في استيعاب التحول النوعي الذي تشهده الفكرة الليبرالية في مقوماتها النظرية والمؤسسية. 
فإذا كان انحسار الأيديولوجيا الماركسية قد أعاد الاعتبار، في العقد الأخير من القرن العشرين، للقيم الفردية والتعددية التي هي المضمون المعياري لليبرالية، فإنه أدى إلى تفجير هذه الفكرة من الداخل، فانتقل الصراع الأيديولوجي النظري إلى الأرضية الليبرالية نفسها. لقد شاع وقتها القول بتباين النماذج الليبرالية وفق اختلاف الساحات الثقافية والاجتماعية والتجارب التاريخية، لكن الإجماع ظل قائماً على الارتباط العضوي بين الليبرالية والديمقراطية التعددية، وبينها ونظرية العقلنة الاختلافية (تنوع مستويات العقلانية بحسب السياقات الاجتماعية) التي هي الخلفية البعيدة لأطروحة الفصل بين الدين والدولة (في ما وراء طبيعة النقاش حول نظم العلمنة). 
ما نشهده - راهناً - هو الانفصام غير المسبوق بين الليبرالية والديمقراطية التعددية، وبين الليبرالية والعقلنة الاجتماعية، ولا يمكن اختزال هذا الانفصام في أطروحة الشعبوية وما تحيل إليه من جدل ظاهر حول الهويات القومية والمواطنة العالمية.

*أكاديمي موريتاني