حين يطغى الإنسان ويجهل فوق جهل الجاهلين، يقوم بصب الحديد والإسمنت كحائط صد، ويجعله في وجه أخيه ومواطنه، فقط لأن الأيديولوجيا السياسية وقفت مع الجدار العالي ساتراً ومانعاً اللقاء والضحكة والود والمودة التي كانت بينهما سنوات طويلة لا تحصى، وليس أدل من سور برلين الرهيب مثالاً على ما تصنع الأيديولوجيا في حربها الضروس، فصل ذلك الجدار اللعين بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية ثمانية وعشرين عاماً، صانعاً حدوداً جديدة خلقها أصحاب الجنس الواحد، وما آل إليه مآلهم بعد العجرفة التاريخية، ومحاولة غزو العالم وفرض شروط العرق الآري على الشعوب والثقافات الأخرى المجاورة، فظهرت دبابات هتلر في مدن أوروبا، ووصلت إلى ثلوج روسيا، وحين انبرت المدن تدافع عن وجودها، والشعوب تدافع عن نفسها وحقها، اندحرت القوات النازية الغازية لتوقع صك هزيمتها، وتقسيمها، وتقاسم أراضيها، ظهرت برلين الغربية، وبرلين الشرقية، وما بينهما ذلك الجدار الذي يصعب اختراقه، ومن يمسك به محاولاً تجاوزه، تُلقى عليه تهمة التخابر مع جهات أجنبية، حيث ألمانيا الغربية تتبع نظاماً أميركياً أوروبياً، وألمانيا الشرقية تتبع روسيا، وتنتهج نهج أوروبا الشرقية، وما بينهما ما صنع الحداد، كانت تلكما المدينتان تعدان أوكاراً للتجسس في الحرب الباردة، وتعدان رمزاً لهزيمة المغامرة التاريخية التي جلبت الوصاية على الألمان.
عد جدار برلين الذي كان يحيط ببرلين الغربية مسافة مائة وخمسة وخمسين كليو متراً، الجدار الحديدي، في عصر الرئيس السوفييتي الحديدي ستالين، وبعده، وكان قاسياً على العائلات الألمانية، فكثير منها وعبر أجيال ضاعت، وكبرت، ولم تستطع أن تلمّ الشمل أو تلتقي أو حتى تتعارف في مناسبات دينية أو وطنية، حتى غدا من أشهر الجدران الفاصلة في العالم، وصمد حتى بدأت المعاول السياسية تهدم بصمت الحديد والإسمنت، فذاب جليد الحرب الباردة، وشاخت أنظمة شمولية، وآن لها الرحيل، وظهر تململ الشعوب، وأصبح التغيير والتحول أمراً حتمياً، فكان السقوط المدوي، والانهيار الرهيب لكل شيء، وأولها جدار برلين الذي يحتفل الألمان بسقوطه، وبتوحدهم قبل ربع قرن، وتمكنهم من جديد من قيادة أوروبا وتوحيد أنظمتها الاقتصادية، وتمكينها من تشكيل قوة أخرى جديدة في العالم.
مستشارة ألمانيا «ميركل» التي تنحدر من ألمانيا الشرقية، وكانت تقود ألمانيا الموحدة، وأوروبا المتحدة يومها، دشنت الاحتفاء بهدم جدار برلين بوضع أكاليل من الزهور عند حافته، تخليداً لذكرى وفاة مائة وثلاثين ألمانياً خلال أيامه القاسية، وسيشارك أسر الضحايا، و«هارالد ييغر» وهو عنصر سابق في الحرس الحدودي لألمانيا الشرقية، كان أصدر الأمر بفتح الحاجز في ذلك المساء، في الساعة الحادية عشرة وثلاثين دقيقة، للسماح بتدفق السيل البشري القادم من مدينتين منفصلتين، ومن بلد مقسم، ليهزموا ليلتها قطاع الإسمنت والحديد والعزلة والأسلاك الشائكة وأجهزة الأمن التجسسية والقمعية، لتحيا بعدها من جديد حرية الإنسان، وقوة ألمانيا، وينتصر إنسانها لنفسه.