هل كانت الدعاية الغربية المبالغ فيها بتلك الغمامة السوداء التي تحيط بكتلة أوروبا الشرقية، وسائر بلدان المعسكر الشرقي، تعني أن الأمن مفقود والحرية معدومة والفساد مستشر، لقد أظهرت السينما الأميركية والأوروبية تلك البلدان وشعوبها بالقساوة والجلافة، وبعقلية القطيع، وأنها مصدر خطر للقادم لها والساكن فيها، لأن هناك ظلالاً ضبابية لـ «إيفان» الرهيب، و«جدانوف» الرقيب، وأن الخارج منها مولود جديد، لكنها في حقيقتها من أجمل مدن العالم التي ظلمتها السياسة، وأنصفها التاريخ، وشفعت لها الجغرافيا، وغدت هذه المدن تتعافى بسرعة، فقد مر على تاريخها الطويل جحافل جيوش، ومستعمرون، وفاتحون، وطامعون، لكنها سرعان ما تنهض من أحزانها باتجاه الفرح الذي جُبلت عليه، مدن أوروبا الشرقية الجميلة دون استثناء، هي مدن لا تليق بها «البهدلة والعسكرة والخندقة»، مدن لا يليق لها اللون الخاكي، ولم يُخلق لتبرجها، ذلك اللون الإسمنتي الصامت، مثل الذي حصل لمدينة تسمى «براغ»، هذه المدينة الزاخرة بالثراء والقديم وعتيق الأشياء، مدينة تختصرها الألوان، لتقول لك: أنا أشبه حالي.. وحالي فقط!  
براغ كانت موطن الفن والموسيقى والعمارة، ورائدة في المعرفة، وابتكار الأشياء، تكفيها جسورها الكثيرة المشيدة للتواصل، والترحيب بالضيف الصديق، تكفيها مبانيها التي خلقت لتبقى، وتذكّر الأجيال بمعنى وحيد للعراقة، كانت تمد سيطرتها وتحكم ما حولها، فكيف لها أن تخضع لسيطرة وقع أقدام عسكر الجيش الأحمر، يأمرون مواطنيها بالكدّ المجاني، ويمنعون الأصوات المتعددة، والموسيقى المتنوعة، ويُطاردون مبدعيها ليضمهم الحزب الواحد والشامل، لذا كان تململها مبكراً، وقبل أن تتقشر جلدة الاتحاد السوفييتي، وفي عز حكم الحديد والفولاذ، فكان ربيعها، «ربيع براغ» نفيراً لشعوب الكتلة الشرقية، وفجراً للمواطن أن يبقى حراً، له لغته، وأدبه وثقافته، ومعنى لتاريخه كيفما يحب أن يعيشه، وأن لا غناء موحد لكل الطيور.
تزورها اليوم، وتمحو تلك الصورة المغبشة بالكآبة، والريبة، من ظلال «إيفان» الرهيب، و«جدانوف» الرقيب، اليوم.. هي لنفسها، هي لبهجتها، تغفو على صباحاتها الباردة بنعومة، والتي لا تختلف عن صباح أوروبي في جهة الغرب، ولها أمسياتها العابقة بالموسيقى والغناء والرقص في العراء، خالية من الانضباط العسكري، وصبغة الرماد، وزوّار الفجر، وتلك الصحف التي تطبع متأخرة بعد أذن الرقيب، ومزينة بصورة الأمين العام للحزب، وتلك التبعية الصامتة للدب الثلجي القابع في موسكو، براغ اليوم متعافية، تلحظها من وجوه الناس، وتلك الابتسامة التي تعني للعملة «التشيكية» الكثير، وأفواج السياح الذين يتقاطرون على المدينة المليئة بالسحر والأسرار والمتع الكثيرة، ولأول مرة تدخل العملة لجيوب المواطنين دون أن تتسرب أو تحتفظ بها الحكومة الوصية كجدة تريد أن تعيش كثيراً على نفقة أحفادها، اليوم براغ فيها تمثال لـ «كافكا» كاتبها الذي كان ممنوعاً ومطارداً في مدن الضباب، ثمة مقعد خشبي له، ومقهى كان يتردد عليه، وأعماله مصدر فخر المدينة بابنها، بعد ما غابت عنها تماثيل لزعماء لا تعرفهم، مثلما ذلك النصب العملاق لـ «ستالين» الذي يحتل جبلاً لوحده، اليوم مكانه بندول زمني رمزي لسباقهم مع الوقت!