لعل أول ما وصلني من المغرب أو تواصلت معه من المغرب مسلسل كويتي في السبعينيات بالتأكيد نسيت اسمه، لكن الشخصية كان يؤديها الفنان «محمد المنصور»، وكانت تلك الشخصية المغربية حاضرة بلباسها ولهجتها وتفاصيلها، من حينها كانت العين متجهة نحو تلك البقعة البعيدة، ليأتي الحظ بعد سنة أو سنتين، وننفتح على تلك البقعة العربية الجميلة، ونعرف أن نتواصل معها لنكتشف كم هو قاس البُعد، وكم هو جميل التواصل والاتصال، وكم هو ساحر وغرائبي ومدهش المجتمع المغاربي في العموم، والمغربي في الخصوص، كان ذلك خلال صيف عام 1978 كان صيفاً متميزاً، حيث كانت أول رحلة لي للمغرب البعيد الذي كان يأتي سراعاً في كتب التاريخ، لا مشاهد ولا صور حيّة تذكر، كانت الأذن تعشق قبل العين أحياناً، في ذاك الصيف من أواخر السبعينيات، وأتمنى أن لا تتسع عيون بعضكم حسداً وغبطة وغِيرة، ولكي أقطع على بعضكم جمله التي ترمي بشرر، أقول: إنها كانت رحلة مدرسية للمتفوقين دراسياً، ويومها كنت في بداية التعليم الثانوي، ومن فريق «أعرف وطنك أيها العربي»، كانت الأمور عندي يومها لا تحتمل إلا الجد والمعرفة، والقبض على الوقت وساعاته، اليوم بقدر ما نفعتني مسألة «جد في جد»، بقدر ما أتأسف على ضياع فرص الهزل الكثيرة التي لا تتكرر، وإن تكررت تجد نفسك أنك تغيرت أو تعثرت أو كبرت، فإما هي جاءت متأخرة أو أنت سبقتها في الهروب إلى الأمام.
في تلك الرحلة كنت مشدوهاً، ومندهشاً بكل شيء في تلك البقعة البعيدة، والتي اضطررنا فيها إلى تبديل ثلاث طائرات في ثلاثة مطارات من أبوظبي وعمّان وباريس. رأينا الشمس تشرق وتغيب في أكثر من مكان، ووصلنا بعد يومين لوجهتنا مطار «النواصر» في الدار البيضاء، كان شعوري الأول أنني غير بعيد عن الأندلس التي قرأت عنها وتشبعت بتفاصيلها، واليوم أعثر على آخر البقايا منها في الزنقة والسويقة والنهج، في الطرب والملحون والموشح، في الملبس والتقليد، في المأكل والمشرب، في سحن الوجوه التي ودعت زمنها في العدوة الأخرى، واستقرت بـ «برنسها» هنا بعد تسليم مفاتيح غرناطة، وزفرة العربي الأخيرة، وهو يبكي مُلكاً مُضاعاً لم يحافظ عليه كالرجال، كما جاء في صرخة عائشة الحُرّة لابنها عبدالله الصغير، وجدته في الخط العربي الأندلسي أو المغاربي الجميل والمميز، في النقوش على الحجر أو الخشب أو الزليج، في تفاصيل كثيرة هاربة، عليك أن تقبض عليها بشغف، لتقول آه المستريح، وتستريح.
غالبتني اللهجة المغربية في بدايتها، وبدأت أسجل كلماتها، ومعنى مصطلحاتها، وغريب حديثها، فالمقارنة لعبة جميلة تقرّبك من الأشياء بحب، لكن ما إن تعرف دفء اللهجة، وتنصت لجملتها المتسارعة والمفخمة، ولا تفوتك الكلمات الأولى، حتى يمكنك أن تقبض عليها بيسر، وتستشعر كم روحها قريبة من لهجتك القديمة، أما تلك الصواني المتعاقبة والمتنوعة، ويومها كان الصحن لا يمكث إلا دقائق معدودة عند جيل مخضرم بين فترة المحل، وفترة الغنى، ويعرف قيمة الأشياء، كان لطعام وأطباق أهل المغرب معنى العافية «العافية ديالنا، مش ديالهم»، لذا تخليت مبكراً، ومن حينها عن الأكل سريعاً، وواقفاً، وعرفت معنى للطواحن في مضغ الطواجن، وفضل الهضم على النهم، وأهمية الوجبات الثلاث في الحياة، وعرفت أن الخِوان لكي يكتمل لابد من سبع طباق مترادفات، كل سفرة بأكلها، لذا بقي المطبخ المغربي من أفضل المطابخ التي يحنّ لها المرء بشغف بين الحين والآخر، وكأنه يتوحم! كانت الفواكه المتنوعة، والحلويات المختلفة، و«الآتاي بالنعناع»، مفتاحاً جميلاً للتعرف على المغرب من خلال طرف اللسان الحلو.. وغداً نكمل