الحديث ليس عن المصطلح الأدبي «خيانة النص أو خيانة المترجم»، ولكن الحديث عن فئة ظهرت قديماً عند بعض الشعوب أثناء الحروب والاحتلال، هي «اللسان» في العربية أو كما يسمى في اللغات الشرقية «زبان»، ويعنى به المترجم الذي هو بمثابة جسر بين الثقافات المختلفة، لكنه في فترات الحروب والنزاعات يلتزم بأن يكون حيادياً أو جاسوساً مزدوجاً، وإلا فهو واقع بين المطرقة والسندان، فلا قومه سيرحمونه، ولا المستعمر سيغفر له، ورغم ذلك يبقى، بعد كل خدماته التي يقدمها، وروحه على كفه، كونه وسط معمعة، وقد لا يكون راضياً عن موقعه، ولا قادراً على حماية نفسه، هذا المترجم يظل بعد الحرب منبوذاً، فهو في نظر أهل وطنه متعاون وخائن، وفي نظر الطرف الآخر مأجور، وقد انتهت صلاحيته. وجود المترجم الخائن لم يشكل في الزمن البعيد ظاهرة، مثلما شكل في حالة التدخل الأميركي في أفغانستان وحربها التي استمرت عشرين عاماً، سقط خلالها من ضمن من سقطوا مترجمون أفغان، جلهم متعلمون ومثقفون أُدخلوا عنوة في تلك المساحة الترابية من العراك والصراع، إما بدافع الحاجة والبطالة وطلب الرزق، وإما سعياً لتأمين حياة مستقبلية مريحة بعد تلك الحرب الملعونة، أقلها تأشيرة دخول أميركا، لأن الحياة في أفغانستان، إن كانت في السابق متعبة، فهي بعد سيطرة طالبان، الفريق الآخر من ذلك الصراع، مستحيلة، لأن مصير تلك الفئة، إما القتل سراً أو الإعدام علناً، ولن تسلم بقية عائلته من العقاب الجماعي.
عدد المترجمين الأفغان الذين قتلوا بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان يصل للآلاف، والذين تركوا لحتفهم المحتوم بعد أن تخلى عنهم الجيش الأميركي، ولعل أولئك البائسين الذين كانوا يتعلقون في الطائرات العسكرية الأميركية المغادرة، بينهم عدد كبير من المترجمين والمتعاونين مع الجيش الأميركي طوال العشرين عاماً من التواجد الأميركي على أرض أفغانستان التي دخلها لتطهيرها من طالبان، وتركها بعد تلك المدة الطويلة بعد أن مكّن طالبان وسلمهم الأرض الجرداء؛ ليزيدوا من غبرتها وعفرتها وغربتها عن التحديث والعصرنة والتمدن.
كجزء من التكفير عن الذنب، وترك المتعاونين من المترجمين الأفغان لمصيرهم المجهول، بدأت السينما الأميركية تنتج أفلاماً فيها الكثير من الصنعة والتعاطف مع هذه الفئة المنسية، التي ظلمت في التاريخ العسكري الحديث، فقامت تزين الأمور، لكنها لا تعرض الحقائق المُرة، فالكثير من المترجمين الذي تم وهبهم «تلك التأشيرة إلى الجنة الموعودة» وجدوا أنفسهم في الملاجئ وأماكن المشردين، وبعض من هؤلاء المترجمين ما برحوا يعتذرون لأطفالهم الذين جلبوهم إلى جهنم جديدة لا يعرفونها.
آخر هذه الأفلام الهوليودية المزينة والمتعاطفة، والتي لا تريد أن تخدش حياء الجيش الأميركي في استراحته المؤقتة بين الحروب، فيلم العهد «The covenant» الذي يعرض حالياً في دور السينما، يتناول الفيلم قصة جندي أميركي يتعرض لإصابة بليغة في كمين لطالبان، فيقتل فريقه إلا المترجم الأفغاني، الذي يغامر في رحلة طويلة وشاقة ومحفوفة بالمخاطر بين طرقات الأودية والجبال لتوصيله سالماً إلى القاعدة الأميركية للعلاج، وكجزء من الوفاء والعهد يحاول أن يستخرج له ولعائلته تأشيرة لأميركا، لكنها تتعثر نتيجة البيروقراطية، لتظهر بعدها البطولة الفردية الأميركية التي تجعل الجندي يرجع ثانية إلى أفغانستان لاسترجاع المترجم الأفغاني، وينجح في استثناء ذلك المترجم، ويحصل على التأشيرة ليوصله وعائلته إلى أميركا، الفيلم من تأليف وإخراج «جاي ريتشي»، ومن بطولة «جيك جيلنهال» و«دار سليم»، وهو ممثل دانمركي من أصول عراقية خدم في الحرس الملكي الدانمركي، ورغم جمال الفيلم الهوليودي إلا أن فواجع المترجمين «الخائنين» في أفغانستان، و«المنبوذين» من أميركا ما زالت تلطخ تلك المرحلة بسواد الوجه!