ما زال المتشوّقون إلى “العالم الجديد”، أو أولئك السادرين فيما يسمى “الحلم الأميركي” يطلقون على اجتيازهم ذلك البرزخ بين الواقع والأمنية اسم “عبور المحيط”. لابد أن تجتاز ـ أنت ابن الشرق ـ تلك الصحراء المائية لكي تدنو من أرض الحرية وتحقيق الأحلام العصية. وجدت نفسي، في الذكرى العاشرة لهجمات سبتمبر، أعبر ذلك المحيط الموحش مع عشرات الآلاف ممن شدوا الرحال، قبل أكثر من قرن، سعيا وراء ما كان وهما، انطلاقا من سواحل سورية (وهي بلاد الشام ولبنان وفلسطين). احتشد هؤلاء في رواية ربيع جابر “أميركا”. صعدوا إلى السفينة من مرافئ بيروت وحيفا والإسكندرية وغيرها. ومن ثم من ميناء فرنسي على الأطلسي ركبوا الأمواج إلى نيويورك على متن واحدة من عابرات المحيط. تستكشف الرواية حيوات المهاجرين المغموسة بالقهر والتعب في رحلتهم وفي مستقراتهم في رحاب المجتمع الأميركي الناهض. كان قد مرّ أكثر من قرن على تأسيس الولايات المتحدة على أيدي رجال بيض قدموا من أوروبا. خاضوا حروب الإبادة ضد السكان الأصليين. استقدموا موجات من “العبيد” من أفريقيا. خاضوا حروبهم الأهلية بعد الاستقلال. ثم فتحوا البلاد أمام موجات جديدة من المهاجرين لكي يعمّروها. تحكي إيزابيل آلليندي، الروائية التشيلية في ثلاثيتها “إبنة الحظ” و”صورة عتيقة” و”بيت الأرواح” جانبا لا تذكره كتب التاريخ من تلك الهجرات. تتتبع سير نساء باسلات بدأن مع إلزا سوميرز انتقلن مع جموع من التشيليين واللاتينيين باتجاه الشمال في ذروة حمى الذهب، بحثا عن ذلك المعدن الثمين والحظ السعيد. يتعذبون، ويغنون، ويحبون، ويتناسلون، ويهرقون أعمارهم على مذبح البلاد الجديدة، التي تعجن بنيانها بعرقهم ودمائهم. كما فعلت آلليندي، يعقد ربيع جابر روايته على سيرة واحدة من الباسلات. مرتا حداد، التي غادرت قريتها في جبل لبنان في رحلة بحث عن زوجها الذي انقطعت أخباره. هناك سوف تنخرط في آلة جهنمية تضم آلاف السوريين في تجارة بدائية: يحملون “الكشّة” (صندوق خشبي) على ظهورهم، ويجولون على القرى والدساكر التي تنبت على ضفاف الأنهار وعلى جانبي شريط السكة الحديد، يبيعون أقمشة ومطرزات وقبعات وغيرها من احتياجات ربّات البيوت. كانت نيويورك في ذلك الزمن قد أنجزت صورتها المدينية المعاصرة. مدينة ملايينية يعيش فيها الأثرياء من السياسيين والصحافيين والعلماء وأصحاب العقارات وأرباب الشركات العملاقة، وتخدمهم جاليات من المهاجرين الجدد: سود، وبولنديون، وسوريون وغيرهم.. كلهم جاءوا بما تربوا عليه من عادات وتقاليد، يمارسونها كما شاؤوا، أو يتخلّون عنها طلبا للإندماج. من الملاحظات اللافتة في رواية “أميركا”، إن الرجل من المهاجرين السوريين كان عندما يدخل إلى سكن النساء يصرخ: man on the floor (رجل في الطابق)، في تمثيل لذلك التنبيه للنساء الذي يطلقه الرجل عندما يدخل بيتا: يالله.. يالله.. راح المجتمع الجديد يمتص هؤلاء. يفتح أبواب اندماجهم أمامهم بلا عقد أو حساسيات. يقولب الأسماء بما يتيح التواصل. محمود يصبح “مايك”. لا يتوقف عند الاعتبارات الشيكسبيرية في استخدام اللغة الإنجليزية. فلينطقها من يريد كما يريد، لتنشأ عنها لاحقا ألسنية أميركية خاصة. فليمارس الجميع ثقافاتهم باعتبارها ثقافة جديدة تتبلور. فلا مشكلة أن يكون المهاجرون الأفارقة هم أصحاب (الجاز) واللاتينيون أصحاب (البلوز). مجتمع نشأ من قلب مجتمعات أخرى، ألغاها، دون أن يصدمها بالإلغاء. وبعد قرن ظن ظان إنه يمكن تقويض هذا المجتمع بتهديم بنايتين في نيويورك... adelk58@hotmail.com