المفاجآت في العالم العربي تتواصل على مدار الساعة، وتكاد تستمر على هذه الحال منذ قرون متواصلة، على شكل حروب وغزوات وصراعات ومؤامرات. أمم كثيرة سبقتنا في كل ذلك، لكنها نجحت في الخروج من تلك المرحلة قبل نحو مائتي سنة، مع نشوء الدولة القومية وانتهاء الحروب الدينية، وبعدها تهيّأت لها الأسباب وأصبحت حاكمة للمجتمع الدولي، بكل جوانبه تقريبا. ولهذا ترانا اليوم، نحن العرب وكل من في حالتنا، وكأنّنا ندفع الثمن الباهظ مرتين: مرّة لأننا لم نستطع بعد الخروج من حروب القرون الوسطى، ومرّة لأننا-عالميا- مهزومون وجزء من الدول المحكومة من الأمم الأقوى (والأفضل؟) والمفاجآت الدامية والدرامية المتواصلة في منطقتنا من دون انقطاع قد تكون تجلّيات لهذا الثمن المزدوج. بعض السذّج يعتبرون زحمة الصراعات في المنطقة دليلا على أهميتها (وأهميتناّ)، وبعضهم يقول ذلك بفخر وابتسامة وعلى مقربة من الضحايا المتساقطة يوميا كمطر الشتاء بسبب هذه «الأهمية» الخادعة، فيما يبدو لي أن أهميتنا لا تتجاوز أهمية أي منطقة استعمارية قديمة فيها ما فيها من أي مواد طبيعية وسكان أصليون ممّن دأب الإعلام الاستعماري القديم على تصويرهم كمجموعة من المتوحشين أو الأقل نمواً ووعياً وأخلاقاً وحضارة. كمياً وزمنياً، الحروب مع الأعداء الخارجيين، مثل الغزوات الصليبية والصهيونية، لم تكن سوى جزء من كل تاريخنا الدامي المتواصل هذا، وباقي التاريخ وحاضرنا يشهد على كثافة دول فاشلة وشعوب قلقة وعلاقات وقيم مأزومة، تارة بين أبناء الدين الواحد، وتارة بين أبناء القوم وربما القبيلة أو حتى الأسرة الواحدة. . خلال هذه القرون، وخلال العصر الحديث على الأقل، شهدت هذه «الأمة» كل المحاولات: 1- جرّبت الأنظمة القومية والدينية والعسكرية، الاشتراكية والديموقراطية والأوتوقراطية و«الجماهيرية»، الوحدوية والانفصالية. 2- جرّبت كل أنواع التبعية والتحالف، مع مختلف المعسكرات والمحاور من شيوعية وليبرالية وأمبريالية، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، وما بينهما من عدم انحياز وحياد إيجابي. 3- قدّمت كل أنواع التنازلات وانخرطت في كل أشكال الصمود الثوري، والقومي، وكل أنواع التشدد والتراخي، الانغلاق والانفتاح، الملكي والجمهوري، الوحدوي والانفصالي. جرّبنا كل ذلك من دون طائل، أي أن كل هذه الأنواع، والاتجاهات وأشكال الحكم، لم تضع يدها بعد على الجرح والداء «المخفي» الأساسي. في المقابل، سجّل العرب، فقط كأفراد نجاحات فائقة عندما اختلطوا بحضارات وأمم أخرى، الأمر الذي يرجّح أن المعضلة الرئيسة تكمن في «الأنا»، التي لا يمكنها إلا الشك وعدم الثقة بادعاءات وشعارات الحرص على: الجماعة أو الأمة أو الدين أو العرض، والغيرة على المصلحة العامة. ولأنّه من المستحيل تغيير هذه «الأنا»، فقد حان الوقت التاريخي للمكاشفة والمصالحة النهائية، التي تحتّم عقداً اجتماعياً وسياسياً جديداً، محوره هذه الأنا أو مصالح الفرد-الفرد. دعونا نجرّب هذا الأمر، ولو مرة واحدة، وبعدها ليكن شكل النظام وأيديولوجيته أيا يكن.