في تجربة الحب العذري، التي نقلتها لنا كتب التاريخ الأدبي كالأغاني للأصفهاني، والأمالي لأبي علي القالي، كما في أشعار الشعراء العذريين وفي طليعتهم مجنون بني عامر، واسمه على الأرجح قيس بن الملوّح، تجتمع تجربة العشق بالجنون، والعشق بالشعر، والعشق بالموت· وهذا التالوت للحب العذري: الجنون والشعر والموت، نعثر على إشاراته فيما ترك لنا الإخباريون من قصص العذريين ومن أشعارهم وسواء كانت هذه القصص والأشعار صحيحة في الميزان النقدي والمصطلح التاريخي، أم كانت من صنيع المخيلة، ونرجّح أن الكثير منها مصنوع ومنحول إلا أنها تكشف عن قدرة القلب البشري العاشق، على صنع حقائقه وأساطيره أيضاً، وأن يمد هذه الحقائق والأساطير على أرض تاريخية واسعة، قد تتجاوز اللغات والشعوب والأزمنة، كي تكتسب صفة كونية أو إنسانية وتغدو جزء من الإرث الإنساني، فما يروي عن المجنون قوله في العشق ـ الموت: ''الله يعلم أن النفس هالكة باليأس منك ولكني أعنيها'' وقد روى الأصفهاني عن قبيلة بني عذرة، التي ينتمي إليها قيس، أنهم قوم ''إذا عشقوا ماتوا'' ومن علامات جنونه المروّية عنه، وذهاب عقله أنه كان يتخيل ليلى في كل اسم أو مكان، وفي كل وارد وصادر، وكل سارح وطائر، في الحمامة والغزال، وبيت الصلاة، وفي النار الموقدة في الصحراء· يقول: ''بمدين لاحت نار ليلى وصحبتي بذات الفضا تزجي المطيّ النواجيا فقال بصيد القوم لمحت كوكباً بدا في سواد الليل فرداً يمانيا فقلت له بل نار ليلى توقدت بعليا تسامى ضوؤها فبدا ليا'' وله أيضاً: ''أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا أراني إذا صليت يممت نحوها بوجهي وإن كان المصلّى ورائيا'' ولكن أهم ما في الحب العذري هو أنه حب الجسد المؤجل· فالغرائز البشرية التي يرى فرويد أنها أساس الإنسان ويسميها ''الليبيدو'' وأهمها الغريزة الجنسية مؤجلة بل ملغاة· مؤجلة إلى متى؟ نسأل ونجيب: إلى ما بعد الموت· يقول المجنون: ''يهواك ما عشت الفؤاد وفي غدٍ يتبع هواي هواكِ بين الأقبرِ''