لا يصر البعض على دور المعاناة والتعب و”البهدلة” في صناعة المثقف، وأن هذه المعاناة لابد أن يعبر سردابها أي إنسان ليحظى بالشهرة وتقدير الموهبة، فإذا جادلت أصحاب هذا الرأي أجابوك بأن التاريخ كله يؤكد ذلك، والأمثلة أكثر من أن تعد وأكبر من أن تحصى، فكبار المبدعين صهرتهم المعاناة والحرمان ليحظوا أخيراً بما يستحقونه، وكثير منهم غادر الحياة دون أن يحظى بما هو جدير به، لقد تم رفع الظلم عن إبداع كثير من العباقرة بعد وفاتهم في الحقيقة، مع ذلك فقد شكل هؤلاء المثقفون مرحلة مهمة لعبوا هم الدور الأكبر في رسم مساراتها وتوجيهها بنتاجات فكرية مهمة تعتبر اليوم مراجع كبرى، كتلك الكتابات التي تركها فولتير وروسو ومونتسكيو ودستويفسكي وتولستوي وغيرهم.
اليوم يمكننا استنتاج أن المرحلة المقبلة لن تكون البطولة مطلقة فيها للاقتصاد والسياسة فقط، وان الثقافة بمجمل دلالاتها والمثقفين بمختلف توجهاتهم ومجالاتهم سيدخلون كلاعبين أساسيين في رسم المشهد القادم، هناك دلالات مرحلة فكرية وثقافية مميزة قادمة، في الوقت الذي يسعى فيه البعض للدفع نحو فوضى حقيقية تهيئ له الأرضية للسيطرة، ما يعني أن أفكارا كبيرة ستنكشف، انكشافا ضروريا لنزع حالة الانبهار بها من جهة والخوف غير المبرر منها من جهة أخرى، أن الشعارات ما عادت تناسب أجيال اليوم ولا تقنعهم.
إن الاستعداد لهذه المرحلة يحتاج انفتاحا على كل المثقفين الموجودين في الساحة، مع إعطائهم فرصة عرض ما لديهم بعيداً عن عقدة الحتميــة التاريخية الخاصة بالمعاناة أو كما ذهب توينبي (التحدي والاستجابة) ، إن هؤلاء الغــــائبين عن المشهد الثقافي العام في الإمارات - وما أكثـــرهم وما أكثر ما يملكون من أدوات جديرة بالاهتمام والفحص - هـــؤلاء سيخوضون تحدي المعركة القادمة حين تبدأ المنطقة في فرز تشكيلاتها وتياراتها، ليس من باب الترف الفكري وتقليد التاريخ ولكن لأن ما تفرزه السياسة اليوم خطير جدا، وهو ما ستتولى الثقافة إدارته في القريب العاجل، فقط لننتظر.
الملاحظ أيضا أن أكثر الجدل بين الأفكار اليوم قائم على غوغائية الخطاب من ناحية وعلى ضعف الأدوات من ناحية أخرى، فلا نقاش موضوعياً ولا جدل أفكار ولا أحد حتى الآن يمتلك خطابا واضحا بإمكانه أن يقنع به الجميع أو جزءاً من الجميع ، الكل يتشاتم مستخدما قاموس التخوين والسخرية، وهي آلية أظنها مقصودة من أجل استنزاف الآخر من جهة، وغربلة المواقف والأطراف من جهة ثانية، ولا ضير في ذلك، بل هذا الأمر مطلوب بشدة.
إن خطابا آخر سيلوح في الأفق أكثر احترافاً ومنهجيةً مما هو عليه الوضع اليوم، وسيديره مثقفون يمتلكون لغة خطاب احترافية، ومواقف وطنية ذات مصداقية عالية، إضافة لآليات حوار متزنة ومقنعة ومنضبطة، ولا شك عندي في أن الناس ستكون مع من يمثل مصالحها ويضمن لها خطابا يوفر أقصى درجات الاستقرار والأمان على أرضية حقوق مدنية عالية المستوى.


ayya-222@hotmail.com