حينما تنبأ العالم الكندي «مارشال ماكلوهن» بأن العالم سيُصبِح قرية صغيرة، بفضل سرعة التواصل الإعلامي وسهولة المواصلات، لم يصدقه الكثير، حتى بدأت تلك القرية الصغيرة تصغر وتصغر بسبب تلك الثورة التقنية والذكاء الصناعي، تجلى لي ذلك وأنا أتجول في القرية العالمية، حيث حضور العالم في تلك البقعة لكل من يمثلون جهاتهم، ويمثلون أجناسهم، لكنهم يذوبون في بوتقة الإنسانية الخالصة، ولا أحد يريد أن يعرف ما يميز هذا عن ذاك، ولا وجود لنغمة التعالي، الكل يقوده أطفاله نحو فرحهم وصخبهم وحب الفضول لديهم، لا وجود لتناطح الرؤوس الكبيرة في تلك البقعة الغاصة بكل أنواع البشر، ولا ذاك التفكير المادي في تسيير أمور الحياة، لأن السعادة سبيلهم، وحب الحياة يقودهم بأمر من الطفولة الصغيرة التي ترضخ لها الطفولة الكبيرة الساكنة في دواخلنا، ونجد لذة غائبة أو منسية سرعان ما يوقظها الإحساس بالسلام بين الجموع، بعيداً عن التوجس والتحفز، ونظرات الحذر التي عادة ما تفرضها علينا عيشة المدن، وحدودها المصطنعة من جدران وأسقف ونوافذ زجاجية وأبواب مقفلة، وحدود بشرية من حُجّاب أمنيين وبطاقات ممغنطة وسكرتيرات وغرف انتظار، لا فضاء مطلقاً يشعر فيه الإنسان بالانطلاق بين الجموع كعادة الكائن الحي في الغاب أو البراري أو السهول، هكذا شعرت في تلك القرية العالمية بروح المشاع والانطلاق البرّي. الغريب أن في تلك القرية العالمية التي لا تعترف بالحدود بين الناس وبين الأشياء، تجد فسيفساء المجتمعات كالمجتمع الهندي مثلاً، بكل تناقضاته، واختلافاته المتشعبة ثقافياً وفكرياً ودينياً واجتماعياً تسير معاً، وتتجاور، وتكاد الأكتاف تلامس الأكتاف دون تربص ودون زهو بالطبقية والفوقية، لأنهم يمشون على أرض ارتضت لنفسها أن تقل الجميع، وتحتضن الكل، وأن قريتها العالمية أنموذج لتلك الروح الجماعية والبساطة الإنسانية كما هي البدايات الإنسانية، وقبل أن يفلسف الإنسان الأمور، ويعقدها، ويحوطها بكثير من الأنانية والمنفعة الشخصية وحب الامتلاك، لذا لا غرو أن تجد في تلك القرية العالمية الأوروبي غير فزع من الأفريقي، والهندوسي بجوار المسلم، وكذلك تجد الصينيين والإيرانيين واليابانيين، وشعوباً عربية، وشعوباً من أميركا اللاتينية، قد يلتقون في مطعم ويتناولون من الأطباق ذاتها في مطعم تركي، قد يصور أحدهم الآخر مع ابتسامة صافية، ترى ذلك المشهد، فتقول: ليت العالم يعيش هكذا منذ أن أصبح قرية صغيرة!