جرى أنني انتظرت الحقيقة دهرين كاملين على مقعد النسيان. أرتّل أوصافها للطير، وعدها فكرة الضيق، وفكرة أنني وحيدٌ رغم اضطرام الحشود في دوائر من حولي. كلما دهستُ عتبةً، تصافق بابها وانغلق. وكلما نهبتُ كتاباً وهممتُ به، آل إلى بياض. وسيكون لزاماً أن أدلّي يدي في النار لعل أقلامي تشتعل، ويشعُّ حبري، ويكتب القضاءُ خلاص أجنحتي وانفراج سمائي. ولا يهم لو قيل بعد ذلك أنه تكفّن بالورق، وسال من لعاب لهفته بحر صمتٍ غزير. ولدتُ حراً، ولكن حين جاءت غضبة الريح يوماً، خبأتني أمي في بطن ساعة على الجدار، متعلقاً هكذا في بندولها ومتأرجحاً، مرةً إلى اليمين، حيث الحقيقة تظهرُ بنصف وجه، ومرة شمالاً حيث الضد يبحث عن كماله في النقص. وأنا لا أنتمي لكليهما، ولا للوقت لأنه قابلٌ للكسر. ولم يفسّر لي المدرسون معنى الميزان، وأنا لو حملته ماذا أصيرُ؟ وما رأيتُ حكيماً إلا والرجمُ مآله إن نطق، ولا شاعراً، إلا وعليه أن يمشي على حد سكين لينجو. فكيف لي، إن حملت صيحة الضوء، أن أبذر شمعه، وفي أي أرض؟ وكيف للكلمة وهي صهيل ربابتي، أن تكون في لحظة الملاذ حصاني؟! وجرى أيضاً، أن الأبيض والأسود اتحدا في زمن البيانو، لكن أصابعي اختلفت. وما كنتُ أظنّه لحناً يُطببُ علّتي، كان في الحقيقة خيوط نشازٍ تطافرت، وتنافرت، وعصيت أن تذوب كلما نُحتُ بها نثراً، وشعراً، وفواتح أغنيات. سأركض، ولكن متى ينتهي سباق الدائرة؟ متى تُدركُ الخطوة أن ليس لها مآب، وأن الذي يلاحق ظله ساقطٌ لا محالة في حفرة التيه، ومنهوبةٌ دقائق عيشِه، وزائلٌ أثر مروره في الوحل والطين. وجهان للدنيا، ليتهما ضاحكان. ووجهٌ واحدٌ للموت، ليت عُبوسه يُردم. لكنُت بلعتُ أسئلتي شوكة شوكة، وتماديت في النأي حد التلاشي. وساعتئذ، سيكون لا فرق بيني وبين غيمة أمطرت، ولكن لم يصل ريّها للأرض بعدُ. ولا فرق بيني وبين موجة هامت، ولم تجد بعدها ساحلاً لتسند كتفها عليه، لكني أكون قد نحيت لغز الطريق، وكسرت الطوق الذي شدّني لأركع كلما نفخت العاصفة أنفاسها، وكلما توعدني الظلام ليكون بيتي. وجرى أن الحقيقة حين جاءت، كانت رثةً ومنهكةً روحها، وعلى ريشها خدوش سهام كثيرة، لكننا تعانقنا على قمة جبل بعيد، وتبخرنا مثل قطرة مطر ناصعة.