يثير مسلسل “في حضرة الغياب”، الذي يتناول سيرة حياة الشاعر محمود درويش ضجة كبيرة، يدور معظمها على أداء الممثل السوري فراس إبراهيم، الذي يقوم بدور محمود، ومدى قرب شخصيته من الشاعر الذي رحل قبل ثلاث سنوات، وبعض من النقد يمس المخرج نجدة أنزور. بداية، أعتقد أن شخصية بحجم محمود درويش وتركيبتها الإنسانية والنفسية والوطنية والوجودية، عصيّة على المحاكاة والتطابق، ولا شك ستثير جدلا كالذي يثيره شعر درويش حتى كتابة هذه السطور، فدرويش كان ولا يزال شاعراً جماهيرياً، ولكنه على الصعيد الشخصي كان منطوياً، ولذلك، ظلت شخصيته الذاتية مختبئة خلف شخصيته الإبداعية، باستثناء نفر قليل من الأصدقاء والمرافقين، الذين خبروه عن قرب، وعايشوا تفاصيل حياته، فالرجل كان متحفظاً في تعامله، وأزعم أنه كان يفرض على نفسه عزلة تبقيه قريباً من كلمته وجملته الشعرية وكتبه وعالمه الخاص. ولهذا، من الصعب أن نطالب الممثل فراس أو غيره من الممثلين، أن يقدم لنا شخصية شبيهة بدرويش، على صعيد الحركة والانفعال ونغمة الصوت، ولاسيّما حين نعرف أن درويش كان يتحدث بسرعة، ويلقي شعره ببطء، وكان سريع الانفعال، وهو ما لم يتوفر في أداء شخصيته من قبل فراس إبراهيم. إن هدف المسلسل، كما يتضح من حلقاته التي بثت حتى الآن، لم يكن خاصا بشخصية درويش فقط، وإنما بملامح المرحلة التي عاشها، في أبعادها السياسية والاجتماعية والوطنية والإنسانية، ورأينا أن شخصية درويش ظهرت في مشاهد قليلة في بعض الحلقات، وما يُحسب لهذا العمل الدرامي، وفريقه، أنه اجتمع بأفراد أسرة درويش، وحصل على تفاصيل لم نكن نعرفها في حياته، وهي تفاصيل بائسة جدا، تناقض الشخصية المعروفة لدى كثيرين، والتي أظهرت درويش لدى الأدباء والجمهور على أنه شاعر (برجوازي) مرفّه. لكن هذا الواقع (المادي) وإن توفر له في سنواته بعد خروجه من فلسطين بعد العام 1967، لا يعني أن روح الرجل كانت مرفهة وناعمة، بل أجزم أنه كان يعيش عذابات شتّى. إن من ينتظر مشاهدة شخصية درويش على الشاشة الفضية، لن يوفّق في هذا، ولكنه سيرى بدلا من ذلك، مرحلة قاسية من حياة الشعب الفلسطيني، مرحلة معمدة بالدم والرحيل والانكسار والمعاناة. ولعلنا رأينا كيف أن علاقته بحبيبته “ريتا” قد جلبت له المشاكل والسجن والضرب، وعلاقته بها لم تكن مجرد علاقة رجل بامرأة، ولكنها كانت علاقـة إنسـانية جدليـة، تناولها درويــش في قصـائده وكتاباته النثرية من منظور إنساني، بل إن هذه العلاقة الإشكالية، هي التي جعلته يحتك بسلطة الاحتلال، ويرى بشاعته وإجرامه. إن وجهات النظر التي أُبديت بشأن المسلسل محل احترام، لكنها قيلت في وقت مبكر، وعلينا ألا نتوقع رؤية وجه درويش في وجه فراس، أو سماع صوت درويش في صوت فراس، فهذا أمر صعب. akhattib@yahoo.com