عندما يجلس أمامك طفلك، ويبدأ في طرح أسئلته الواسعة، تشعر أمامه أنك صغير جداً، وتتضاءل أكثر كلما وسّع هو من أسئلته، ويضيق بك الكون عندما يفرد هو أجنحة الاستفهام، ويمشي على سجادة اللغة، من دون تعثر ولا تبعثر، بينما أنت تشعر وكأنك أمام امتحان، وتخشى من الأسئلة المباغتة، وتهاب نظراته، وتقوس حواجبه الصغيرة، ولمعة الرضاب الجميل بين شدقي شفتيه، ويداه الصغيرتان مثل جناحي طائر، تلوحان وكأنه يطارد إجاباتك التي تكون أحياناً مبهمة، لأسباب تخص قلة وعيك لأهمية التناغم مع هذا الطفل الذي لا يجد مبرراً لخوفك من أسئلته، لأنك كنت في يوم من الأيام تواجه القلق الوجودي نفسه، وحالة البحث عن الذات نفسها، من خلال النبش في رمل الحياة، من أجل الفوز في لحظة انتصار على الغامض والمبهم، والمدلهم في أحيان كثيرة، لأنك لا تريد أن تكون أنت في اللحظة التي تكون أمام طفلك، تريد فقط أن تمثل دور الواقف من فوق ويلقي بالأوامر، ويسدي بالنصائح ويهدد ويتوعد ويرعد ويزبد، وما على الآخر الصغير إلا أن يرخي سدائل العرفان لمن يطعمه ويسقيه، ويقول شكراً لك أبي لأنك أبي، ثم يغادر منطقة أسئلته ولا ينطق ببنت شفة.
أنت يغادرك ابنك، وتجلس بمفردك، وتعيد طرح أسئلته على نفسك من جديد، تشعر بتفاهة هذا العالم الذي خدع وصورك أنك أنت الأكبر، وأنت الذي تستطيع أن تساهم في توسيع وعي الأصغر منك.
تشعر بأنك تعيش كل هذا الزمن الطويل تحت طائلة خدعة بصرية مريعة، وأن هذا الصغير الذي تخبئ عنه مسلمات التاريخ هو الأكبر، وهو الأذكى لأنه مثل الغيمة لا يخبئ شيئاً، بل هو فضاء مفتوح على العالم، ولو كان منه أن يلقي خطاباً موسعاً عن الكون، فسوف يقول ما يجيش في خاطره، ولن يتورع في أن يفرغ كل ما في جعبته عن الأسرار الدقيقة التي تحدث في منزل ذويه، لأنه لم يقع بعد في سجن الأنا، ولأنه لم يزل خارج إطار الشخصانية المصنوعة خصيصاً من الآخر، هو الآن الأكبر لأنه الأكثر وعياً بكينونته، والأكثر انفتاحاً نحو الخارج من دون محسنات بديعية، ولا استعارة ولا كناية، فالجملة لديه مباشرة وواضحة، ومنسجمة مع قناعاته هو وليس أنت، عندما تنظر إلى كل هذه التفاصيل، تشعر فعلاً أنك الأصغر، لأن الأكبر هو بالفعل من يتغلب على خوفه، ويهزم قوانين الأنا.