ليس جعْلُ هذه الْمُساءلةِ عنواناً لهذه المقالة من باب الْمُساءلات التي كان طرَحها المفكّرُ الفرنسيّ جان پول سارتر في منتصف القرن الماضي في فصل من كتابه: “ما الأدب؟”؛ ولكن كان من باب تساؤُل سِيمَائِيّ عن محتواه. وإذن، فليس الأمر ينصرف، هنا، إلى حرّيّة الرّأي، أو الفكر أساساً؛ بحيث يمكن الاِنحِرافُ إلى دلالة معنى العبارة الفقهيّة، أو القانونيّة: “يجوز” لنا أن نكتب عن هذا الموضوع، في حين أنّه “لا يجوز” لنا أن نكتب عن سواه لأسبابٍ تمحَّضُ لِمسألة الحرّيّة قبل كلّ شيء؛ وذلك كما يقال: يجوز المرورُ، في قانون السّير، في هذا الشّارع في اتّجاهين مختلفين، ولا يجوز المرور إلاّ في اتّجاه واحدٍ في شارع آخر، بناء على إشارات مرورٍ محَدَّدة. لسنا إذن إلى ذلك نريد، ولا إليه نقصد؛ وإنّما تتعلّق هذه الْمُساءلة، من بعض الوجوه، بما يطلِق عليه النّاقد الفرنسيّ روا هاريس: “سِيمَائيّة الكتابة”؛ أي بالممكن الثـّقافيّ؛ أي بما يمكن أن يكون حَيزاً من الكتابة، ولكنّه لا يكون؛ لأنّ كينونته لم تعُدْ نافعةً للنّاس؛ ولأنّ الأحداث جاوزته؛ أو لأنّ مرتفَقاتِ الحضارة لم تعدْ تتلاءم معه؛ أي لأنّ كلّ المعطيات التّاريخيّة والحضاريّة والثقافيّة والاجتماعيّة، وربما السّياسيّة أيضاً، لم تعُد تتلاءم مع كينونة تلك الكتابة، التي ازدهرت في عهد من العهود، وسادت. وإذن، فهناك موضوعاتٌ عاشت في زمن خالٍ لكنّها بادت؛ كما سادت كثير من اللّغات البشريّة، لكنّها لأسباب كثيرة مختلفة، انقرضَتْ وبادت. فهناك موضوعات كُتِبت في القديم، أو تُنُووِلَتْ في الشّعر العربيّ قبل الإسلام؛ ولكنّ أحداً من الشّعراء المعاصرين لم يعد متقيّداً بها؛ ولا أن يجرُؤ حتّى على تناوُلِها مثل وصْف الدّيار البالية، وذكْر الرّبوع الخالية، والتّعريج عليها من أجل بكاء حبيبة عاشت فيها ثمّ تحمّلَتْ عنها، ووصْف جمالها، والتّغنّي بمحاسنها، والتّلذُّذ بمفاتنها؛ وإبداء الحزن الشّديد، أثناء ذلك، على مُبايَنَتِها. فهذا مثال ممّا يمكن أن يُكتَبَ؛ ولكنّنا، مع ذلك، لا نكتبه؛ لأنّه لم يعُدْ لائقاً للكتابة العصريّة. فأَنْ يَعُوجَ الشّاعر العربيّ المعاصر على موضوع الأطلال أمسى من الموضوعات المرغوب عنها في حقل الكتابة الشعريّة. إنّ مثل هذه الوسائل المدهشة في عَلاقات الاتّصال هي التي كثيراً ما تجني على الشّاعر المعاصر فتقتل في قريحته روح الشّوق فلا تتحرّك عاطفتُه إلاّ بمقدار؛ ولا تحْمِله، إذن، على أن يُعَرِّجَ على الدّيار البالية فيَبْكِيَها، ولا على الرّسوم الدّارسة فيَرْثِيَها. إنّه لا يمكن تجريد أيُّ كتابةٍ من الصّفة الزّمنيّة، ولا من الصّفة المكانيّة؛ وخصوصاً الصّفة الأولى. كما لا يمكن إقناعُ النّاس بأنّ كتابة الأمس صالحة كلّها لنمضيَ على هدْيِ كتابتها؛ مثلُها مثلُ كتابتنا نحن، أو كتابة عهدنا هذا، بحيث لا يجوز أن نفرضَ طقوسَها وموضوعاتها على مَن يأتي بعدَنا من الكتّاب؛ فهناك كتابة مضت ولم يعدْ ممكناً، بأيّ وجهٍ، كِتابتُها؛ لأنّها كتابة ميتة وإنْ ظلّت حيّة، أو مفقودة وإنْ ظلّت موجودة.