من الأمور التي قد تفرح يومك أن تعرف أن هناك قرية نظيفة في هذا العالم، وأنها تتنفس هواءها الرباني، بعيداً عن ملوثات المدن، وصخبها وضجيجها، تصحو على صياح الديك، لا منبهات، ولا ساعات لليقظة المفزعة، يتسلل الفجر لبيوتها الحجرية عبر بوابة ونوافذ صغيرة، والشمس تأتي لها فرحة ناثرة شعاعها، أسراب من طيور تبقى تغني حتى يصحو الناس، تلك قرية خضراء عدتها «اليونسكو» من أنظف بقاع العالم، تستقر على مرتفعات من جزيرة «بالي» بإندونيسيا، تستحق أن تقصدها ولو أمضيت ثلاث ساعات للوصول إليها، لأنك ما إن تصلها حتى تتغير حالك، وستشعر أنك خفيف، وأن رئتيك نظيفتان، وستتنفس بعمق، مستشعراً رائحة العشب الأخضر، وخرير الماء حين يجانب المنحدرات، جاعلاً من غابة الخيزران مرتعاً ومرعاً للإنسان القادر أن ينسحب، منتصراً لبدائيته، ولروح الفطرة التي جُبل عليها، وأنسته إياها عجلة الحياة الحديثة، تلك هي «بنجالي بوران» أنظف قرية في العالم، والتي تمتد بيوتها الحجرية القديمة على مدرجات، وكأنها جزء من معبد هندوسي بُني من أجل الأبد، وفيها، وقبل أن تدخل أبوابها المجبولة بالخشب والنقش عليه، تجد الأزهار والورود تحف بالمكان، وثمة طبيعة وأشجار بقرب النافذة، وعند منحنى المطبخ، ومرات تتسلق جدران الحمامات، أزهار تستقبلك، وورود تودعك، بيوت نصبت من الحجر «البازلتي» كل أدواتها من الطبيعة، وأهلها تعتقد أن الزمان نسيهم، ثم تذكر، البساطة تسيّر إيقاع الحياة هنا، هنا يزرعون، ويحصدون، ويأكلون، وهناك بيت للرب يعبدون، لا توقظهم سيارة عابرة، ولا أزيز لأشياء معدنية تطرق الأذن، تسير العجوز تتبع ظلها، وتستريح عند كل باب، والرجل المسن يداعب نساء القرية، ويضاحكهن، وربما لا يصدِّقن وعوده أول النهار بالزواج بعدما ترمل، فهن يعرفن قصص كل يوم، الأطفال لا تخشى عليهم ما يروع طفولتهم، مدارسهم لزق البيوت، والطرقات كلها موصلة ولا مرهقة، ولا فزّاعات غير فزّاعات خيال المآتى في حقول الرز المنتشرة على مد البصر، ما ألذ تلك الوجبة البسيطة المصنوعة في قدر صغير بحجم لقمة أهل البيت، وتلك الرائحة التي تستدعي جوع الضحى، وتسير مع آخر ساعات النهار منتقلة من بيت لبيت، آه.. ما أطيب أكل الجيران، لقد غابت أشياؤنا.. وتذكّرتها هنا. كانت ساعات من صباح جميل، وممطر، كما يليق بصباحات بعض الجزر، صباح يستحق العناء، ووعثاء السفر، غير أنك لن ترجع إلا وقد اكتحلت عيناك بالخضرة، وردّت روحك لبدائيتها ومرعاها الأزلي، وامتلأت رئتاك بهواء من غاب الخيزران، وتمنيت ذاك العش الأخضر الذي هجره الإنسان نحو قفص المدينة الإسمنتي، ولم يتأسف!