ما هي المدينة؟ هل هي كلها أم بعضها أم اسمها؟ وهل هي شوارعها وأماكنها وناسُها؟ وهل هي الآن أم تواريخها الكثيرة؟ أم هي أمر آخر خارج عن كل هذا؟ كلما حاولت أن أضع يدي على حرف من حروف المدينة، أراه يترنح أو يضيع... فكل شيء في تغير دائم، ولا يبقى سوى بصمات من الذاكرة على هيأة وشم في ظاهر اليد أو القدم، فغالباً ما يكون في الأماكن، من قديم الزمان حتى اليوم، ما يشبه ما ذكره الشاعر من أطلال خولة: “لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمَدِ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ” إن الوقوف على أي مكان، سواء كان في بيروت أو دمشق أو نيويورك، وسواء كان في الجنوب أو في الشمال، فيه شيء من الطللية. (2) هذا أولاً فيما يختص بالمدينة. ثم ما هي بيروت بالنسبة إليّ؟ بيروت بالنسبة إليّ أمر شخصي.. بل هي مسألة ذاتية كالقصيدة، تدور في موقع غامض بين الواقع والمخيلة واللغة. هي في ما انطبع منها في حواسي الخمس: في العين من مشاهد متغيرة، وفي الأنف من روائح، وفي الأذن من أصوات، وما بقي في الذاكرة من ذكرى وجه أو حبّ أو هروب، وما نسجته المخيلة أيضاً وما صنعته الكلمات. فأنا، على سبيل المثال، في صغري، رجلٌ مشّاء... بل أنا متسكّع الشوارع التي لا تنتهي.. الشوارع التي كأنها “حكاية بلا بداية ولا نهاية”. أشم في هذا الدوران روائح المدينة، أسمع أصواتها وهسيسها وصخبها، وأترك جسدي وحواسي تحتك بها احتكاكاً مباشراً، فإن لجسد المدينة روائح وأصواتاً لا يلتقطها إلا الذين يمشون في شوارعها بلا قصد ولا غاية، لأن من يمشي بقصد أو غاية، فإنه يكون محجوباً بقصده عن التقاط تفاصيل ما يحيط به من مشاهد أو أصوات. المشي في الشوارع كالسباحة فيه شيء من احتكاك عري الجسد بعري المكان. (3) وهكذا أدور وحدي في شوارع المدينة، وربما يدور ظلي وحده، فيلتوي على الجدران ينطوي على المنازل التي يمسّها، كغيمة سوداء فكرة بلا جسد. أسير في الشوارع الخرساء حين يهبط الظلام كالمسافر الذي يسير في متاهة. يهبّ فوق وجهي ريحها، ولم يكن من الشتاء قادماً، لكنه يجتاحني من أسفل العروق حتى آخر القدم. وربما سمعت قطة تموء أو رأيت كلبة من الرياح تعوي، وربما يتمّ ذاك في قميصي وليس في العراء، فليس لي أخ سوى العصا، وليس لي أب سوى الطريق.